رحيما إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما ضعفوا ، ورعيت ما أهملوا. وحفظت ما أضاعوا ، شمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا. وأدركت أوتار ما طلبوا ، وراجعوا رشدهم برأيك ، فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا ، وكنت كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أمنّ الناس عليه في صحبتك ، وذات يدك. وكنت كما قال : ضعيفا في بدنك ، قويا في أمر الله ، متواضعا في نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا في أعين الناس ، كبيرا في أنفسهم. لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لأحد مطمع ، ولا لمخلوق عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز ، حتى تأخذ له بحقه. والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق.
القريب والبعيد عندك سواء. أقرب الناس إليك أطوعهم لله شأنك الحق والصدق والرفق. قولك حكم. وأمرك حزم ، ورأيك علم وعزم. فأبلغت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفأت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوي الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون.
واتعبت من بعدك إتعابا شديدا. وفزت بالجد فوزا مبينا. فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك في السماء ، وهدت مصيبتك الأنام. فإنا لله وإنا إليه راجعون. رضينا عن الله قضاءه. وسلمنا له أمره. فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمثلك أبدا. فالحقك الله بنبيه ، ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك».
وسكت الناس حتى انقضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.
خطبة أخرى لعلي رضي الله عنه : «أما بعد : فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم وغدا السباق. ألا وإنكم في أيام مهل ، ومن ورائه أجل.
فمن أخلص في أيام أمله فقد فاز. ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله ، وضره أمله.
ألا فاعملوا لله في الرغبة ، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة ، نام طالبها ، ولا كالنار ، نام هاربها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل. ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال. ألا وإنكم قد أمرتم بالظّعن ، ودللتم على الزاد. ألا وإنّ أخوف ما أخاف عليكم الهوى وطول الأمل».
وخطب فقال بعد حمد الله : «أيها الناس ؛ اتقوا الله ، فما خلق امرؤ عبثا ، فيلهو. ولا أهمل سدى ، فيلغو. ما دنياه التي خسّست إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر