فصل :
في جوانب إعجاز القرآن
فإن قال قائل : قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلىاللهعليهوسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وإن كان من بعدهم من أهل الأعصار لم يعجزوا ، قيل : هذا سؤال معروف ، وقد أجيب عنه بوجوه ، منها ما هو صواب ، ومنها ما فيه خلل.
لأن من كان يجيب عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب ، إن قدروا على مثل نظمه ، فقد سلّم المسألة. لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه. فإذا أجاب بما قدمناه فقد وافق السائل عن مراده ، والوجه أن يقال : فيه طرق ، منها أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، فمن بعدهم أعجز ؛ لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول ، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم ، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم. فأمّا أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا.
ومنها أنا قد علمنا عجز أهل سائر الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول. والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد ، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة ، والتنافر في الطباع على حد. والتكلف على منهاج لا يختلف. ولذلك قال الله تبارك وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)
التحدي
يجب أن تعلم أنّ من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم ، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ، ويؤيّد بآية. لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ، ولا بقول نفسه ، ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه ، فيستدل به على صدقه.
فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي ، وكانوا عاجزين عنها ، صح له ما ادعاه. ولو كانوا غير عاجزين عنها ، لم يصح أن يكون برهانا له.
__________________
(١) آية (٨٨) سورة الإسراء.