معروفة محصورة. وهذا كما يشتبه على من يدّعي الشعر من أهل زماننا ، والعلم بهذا الشأن ، فيدّعي أنه أشعر من البحتري ، ويتوهم أنه أدق مسلكا من أبي نواس وأحسن طريقا من مسلم. وأنت تعلم أنهما متباعدان ، وتتحقق أنهما لا يجتمعان ، ولعل أحدهما إنما يلحظ عبارة صاحبه ، ويطالع ضياء نجمه ، ويراعي حقوق جناحه ، وهو راكد في موضعه ، ولا يضر البحتري ظنه ، ولا يلحقه بشأوه وهمه. فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمد فصاحة القرآن ، وموقع بلاغته ، وعجيب براعته ، فما عليك منه ، إنما يخبر عن نقصه ويدل على عجزه ، ويبين عن جهله ، ويصرح بسخافة فهمه ، وركاكة عقله.
وإنما قدمنا ما قدمناه في هذا الفصل لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن ، وعجيب نظمه ، وبديع تأليفه أمر لا يجوز غيره ولا يحتمل سواه ، ولا يشتبه على ذي بصيرة ولا يخيل عند أخي معرفة كما يعرف الفضل بين طباع الشعراء من أهل الجاهلية ، وبين المخضرمين وبين المحدثين ويميز بين من يجري على شاكلة طبعه وغريزة نفسه ، وبين من يشتغل بالتكلف والتصنع ، وبين ما يصير التكلف له كالمطبوع ، وبين من كان مطبوعه كالتعمل المصنوع. هيهات هيهات ، هذا أمر وإن دق فله قوم يقبلونه علما ، وأهل يحيطون به فهما ، ويعرفونه إليك إن شئت ، ويصورونه لديك إن أردت ، ويجلونه على خواطرك إن أحببت ، ويعرضونه لفطنتك إن حاولت ، وقد قال القائل :
للحرب والضرب أقوام لها خلقوا |
|
وللدّواوين كتّاب وحسّاب |
ولكل عمل رجال ، ولكل صنعة ناس ، وفي كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط.
ولكن قد قلّ من يميز في هذا الفن خاصة ، وذهب من يحصل في هذا الشأن إلا قليلا ، فإن كنت ممن هو بالصفة التي وصفناها من التناهي في معرفة الفصاحات ، والتحقيق بمجاري البلاغات ، فإنما يكفيك التأمل ويغنيك التصور ، وإن كنت في الصنعة مرمدا ، وفي المعرفة بها متوسطا ، فلا بد لك من التقليد ، ولا غنى بك عن التسليم. إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها ، والشادي فيها كالبائن منها. فإن أراد أن يقرب عليه أمرا ، ويفسح له طريقا ، ويفتح له بابا ، ليعرف به إعجاز القرآن. فإنا نضع بين يديه الأمثلة ، ونعرض عليه الأساليب ، ونصور له صورة كل قبيل من النظم والنثر ، ونحضر له من كل فن من القول شيئا يتأمله حق تأمله ويراعيه حق مراعاته ، فيستدل استدلال العالم ، ويستدرك استدراك الناقد ، ويقطع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية ، الطالع عن الإلهية ، الجامع بين الحكم والحكم. والإخبار عن الغيوب والغائبات ، والمتضمن لمصالح الدنيا والدين. والمستوعب لجلية اليقين والمعاني المخترعة في تأسيس أصل الشريعة وفروعها بالألفاظ الشريفة ، على تفننها وتصرفها. وتعمد إلى شيء من الشعر المجمع عليه فتبين وجه النقص فيه ، وتدل على