العامي واللفظ السوقي ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلا ، ويعطونه كيف تصرف حقوقه ، ويعرفون مراتبه فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم ، من الوجه الذي لا يشاركه فيه غيره ، ولا يساهمه سواه.
ألا تراهم وصفوا زهيرا بأنه أمدحهم ، وأشدهم أثر شعر. قاله أبو عبيدة ، وروي أن الفرزدق انتحل بيتا من شعر جرير ، وقال : هذا يشبه شعري. فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم من المعرفة بهذا الشأن ، وهذا كما يعلم البزازون هذا الديباج عمل بتستر ، وهذا لم يعمل بتستر ، وأن هذا من صنعة فلان دون فلان ، ومن نسج فلان دون فلان ، حتى لا يخفى عليه وإن كان قد يخفى على غيره. ثم إنهم يعلمون أيضا من له سمت بنفسه ، ورفت برأسه ، ومن يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره ، ويجعل سواه قدوة له. ومن يلم في الأحوال بمذهب غيره ويأتي في الأحيان بمخترعه.
وهذه أمور ممهدة عند العلماء ، وأسباب معروفة عند الأدباء. وكما يقولون إن البحتري يغير على أبي تمام إغارة. ويأخذ منه صريحا وإشارة ، ويستأنس بالأخذ منه ، بخلاف ما يستأنس بالأخذ من غيره ، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه.
وكما كان أبو تمام يلم بأبي نواس ومسلم ، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد لا يتحاشى ، ويؤلف ما يقوله من فرق شتى. وما الذي نفع المتنبي جحوده الأخذ ، وإنكاره معرفة الطائيين. وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهارا ، أو ألم بهما فيه سرارا؟!
وأما ما لم يأخذ عن الغير ، ولكن سلك النمط ، وراعى النهج ، فهم يعرفونه ، ويقولون هذا أشبه به من التمرة بالتمرة ، وأقرب إليه من الماء إلى الماء ، وليس بينهما إلا كما بين الليلة والليلة. فإذا تباينا وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه ، وسلك في غير جانبه ، قيل بينهما ما بين السماء والأرض ، وما بين النجم والنون ، وما بين المشرق والمغرب.
وإنما أطلت عليك ووضعت جميعه بين يديك ، لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله ، وغامضه وقريبه ، وبعيده ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس متداول ، وهو قريب متناول ، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم ، ويبعد عما هو في عرفهم ، ويفوت مواقع قدرهم؟
وإذا اشتبه ذلك ، فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة ، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه ، ويديرونه بينهم ، ولا يتجاوزنه ، فكلامهم سبل مضبوطة ، وطرق