والرشاقة والسلاسة ، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم. وكذلك يميز بين شعر الأعشى ، في التصرّف وبين شعر امرئ القيس ، وبين شعر النابغة وزهير ، وبين شعر جرير والأخطل ، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف ، وطريق مألوف.
ولا يخفى عليه في زماننا الفضل بين رسائل عبد الحميد وطبقته ، وبين طبقة من بعده ، حتى أنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن
العميد وبين رسائل أهل عصره ، ومن بعده ممن برع في صنعة الرسائل ، وتقدم في شأوها حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين ، وطريقة المتأخرين ، حتى خلص لنفسه طريقة ، وأنشأ لنفسه منهاجا ، فسلك تارة طريقة الجاحظ ، وتارة طريقة السجع ، وتارة طريقة الأصل ، وبرع في ذلك باقتداره ، وتقدم بحذقه ، ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق غيره. وإن كان قد يشتبه البعض ويدق القليل وتغمض الأطراف وتشذ النواحي. وقد يتقارب سبك نفر من شعراء عصره ، وتتدانى رسائل كتاب دهر ، حتى تشتبه اشتباها شديدا ، وتتماثل تماثلا قريبا ، فيغمض الفصل.
وقد يتشاكل الفرع والأصل وذلك فيما لا يتعذر إدراك أمده ، ولا يتصعب طلاب شأوه ، ولا يتمنع بلوغ غايته ، والوصول إلى نهايته ، لأن الذي يتفق مع الفضل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا وتفاوتوا في مضمار فصل قريب وأمر يسير. وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ ، وسارق المعاني ، ولا من يخترعها ، ولا من يسلم بها ، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به ، ولا من يخترع الكلام اختراعا ، ويبتدهه ابتداها ، ممن يروّى فيه ، ويجيل الفكر في تنقيحه ، ويصير عليه حتى يتخلص له ما يريد ، وحتى يتكرر نظره فيه.
قال أبو عبيدة : سمعت أبا عمرو يقول : زهير والحطيئة واشباههما عبيد الشعر ، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين ؛ وكان زهير يسمّي كبر شعره «الحوليات المنقحة». وقال عدي بن الرقاع :
وقصيدة قد بت أجمع بينها |
|
حتى أقوّم ميلها وسنادها |
نظر المثقّف في كعوب قناته |
|
حتى يقيم ثقافة منادها |
وكقول سويد بن كراع :
أبيت بأبواب القوافي كأنما |
|
أصادي بها سربا من الوحش نزّعا |
ومنهم من يعرف بالبديهة وحدة الخاطر ، ونفاد الطبع وسرعة النظم ، يرتجل القول ارتجالا ، ويطبعه عفوا صفوا. فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا وكدوا أنفسهم ، وجاهدوا خواطرهم.
وكذلك لا يخفى عليهم الكلام العلوي واللفظ الملوكي ، كما لا يخفى عليهم الكلام