من المبيّن دون
جنس. ولذلك قال : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وقال : (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) وقال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) فكرر في مواضع ذكره أنه مبين.
فالقرآن أعلى
منازل البيان ، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه ، من تعديل
النظم وسلامته ، وحسنه وبهجته ، وحسن موقعه في السمع ، وسهولته على اللسان ،
ووقوعه في النفس موقع القبول ، وتصوره تصور المشاهد ، وتشكله على جهته حتى يحل محل
البرهان ودلالة التأليف ، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة.
وإذا علا الكلام
في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ، ما يذهل ويبهج ، ويقلق
ويؤنس ، ويطمع ويؤيس ، ويضحك ويبكي ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجي ويطرب ،
ويهز الأعطاف ، ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحيّة والعزّة. وقد يبعث على بذل
المهج والأموال شجاعة وجودا ، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا. وله مسالك في
النفوس لطيفة ، ومداخل إلى القلوب دقيقة.
وبحسب ما يترتب في
نظمه ، ويتنزل في موقعه ، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه يكون عجيب تأثيراته ، وبديع
مقتضياته. وكذلك على حسب مصادره ، يتصور وجوه موارده.
وقد ينبئ الكلام
عن محل صاحبه ، ويدل على مكان متكلمه ، وينبه على عظيم شأن أهله ، وعلى علو محله.
ألا ترى أن الشعر
في الغزل ، إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن ، وإذا صدر عن متغزل وحصل من متصنع نادى
على نفسه بالمداجاة ، وأخبر عن خبيئه في المراءاة. وكذلك قد يصدر الشعر في وصف
الحرب عن الشجاع ، فيعلم وجه صدوره ، ويدل على كنهه وحقيقته.
وقد يصدر عن
المتشبه ، ويخرج عن المتصنع ، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه ، ويظهر من أمره خلاف
ما يبديه ، وأنت تعرف قول المتنبي :
فالخيل والليل
والبيداء تعرفني
|
|
والحرب والطّعن
والقرطاس والقلم
|
__________________