الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (١) وقيل : «أعيا من باقل» سئل عن ظبية في يده ، بكم اشتراها فأراد أن يقول : بأحد عشر ، فأشار بيديه مادا أصابعه العشر ، ثم أدلع لسانه وأفلت الظبي من يده.
ثم البيان على مراتب : قلنا قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر.
ومن الناس من زعم : أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في الفضل. واعلم أن الذي بيناه قبل هذا ، وذهبنا إليه هو سديد. وهو أن هذه الأمور تنقسم. فمنها ما يمكن الوقوع عليه والتعمل له ، ويدرك بالتعلم. فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به.
وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات ، فذلك هو الذي يدل على إعجازه ، ونحن نضرب لذلك أمثلة لتقف على ما ذهبنا إليه.
وذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل : إن التشبيه تعرف به البلاغة. وذلك مسلّم ، ولكن إن قلنا ما وقع من التشبيه في القرآن معجز ، عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك. وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر ، وقد تتبّع في هذا ما لم يتتبع غيره ، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء. وكذلك كثير من وجوه البلاغة قد بيّنا أن تعلمها يمكن ، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره.
فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية. ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض ، وينتهي منه إلى متصرفاته على أتم البلاغة ، وأبدع البراعة. فهذا مما لا نأباه بل نقول به.
وإنما ننكر أن يقول قائل : إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يتصل به الكلام ، ويفضي إليه. مثل ما يقول : إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز ، وإن التشبيه معجز ، وإن التجنيس معجز ، والمطابقة بنفسها معجزة.
فأما الآية التي فيها ذكر للتشبيه ، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها ، فإني لا أدفع ذلك وأصححه ، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه.
وصاحب «المقالة» التي حكيناها ، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه ، وما قرن به من الوجوه. ومن تلك الوجوه ما قد بيّنا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان. وذلك لا يختص بجنس
__________________
(١) آية (١ : ٤) سورة الرحمن.