نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي |
|
جاء يعصي به ونعم القرين |
ما يبالي إذا انتحاه بضرب |
|
أشمال سطت به أم يمين |
وإنما يوازن شعر البحتري بشعر شاعر من طبقته ، ومن أهل عصره ، ومن هو في مضماره ، أو في منزلته ، ومعرفته أجناس الكلام ، والوقوف على أسراره ، والوقوع على مقداره شيء. وإن كان عزيزا ، وأمر وإن كان بعيدا فهو سهل على أهله ، مستجيب لأصحابه ، مطيع لأربابه ، ينقدون الحروف ، ويعرفون الصروف ، وإنما يتقي الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري وأبي تمام وابن الرومي وغيره.
ونحن وإن كنا نفضل البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي وغيره من أهل زمانه ، ونقدمه بحسن عبارته وسلاسة كلامه ، وعذوبة ألفاظه ، وقلة تعقد قوله.
والشعر قبيل ملتمس مستدرك ، وأمر ممكن منطبع. ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم ، أو يسمو إليه الفكر ، أو يطمع فيه طامع ، أو يطلبه طالب. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان متدربا ، وفيه متوجها متقدما ، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا ، والنفوذ فيما وصفنا. وإلا فاجلس في مجلس المقلدين ، وارض بمواقف المتحيرين.
ونصحت لك حيث قلت ؛ انظر ، هل تعرف عروق الذهب ، ومحاسن الجوهر ، وبدائع الياقوت ، ودقائق السحر ، من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها؟ وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء فيها؟
ولكل شيء طريق يتوصل إليه به ، وباب يؤخذ نحوه فيه ، ووجه يؤتى منه. ومعرفة الكلام أشد من المعرفة بجميع ما وصفت لك ، وأغمض وأدق وألطف. وتصوير ما في النفس وتشكيل ما في القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده وإن كان قد يقع بالإشارة ويحصل بالدلالة والإمارة ، كما يحصل بالنطق الصريح ، والقول الفصيح. فللإشارة أيضا مراتب ، وللسان منازل. رب وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته ، لا خلف فيه. ورب وصف يربو عليه ويتعداه ورب وصف يقصر عنه.
ثم إذا صدق الوصف انقسم إلى صحة وإتقان ، وحسن وإحسان ، وإلى إجمال وشرح ، وإلى استيفاء وتقريب ، وإلى غير ذلك من الوجوه.
وكل مذهب وطريق له باب وسبيل ، فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى : (لَوِ
__________________
(١) آية (٤٢) سورة فصلت.