وقوله : فكيف يكون إن لم يسأل ، مليح جدا ، ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه ، ولا يطرد فيه الماء اطراده فيه.
وفيه شيء آخر ، لأنه لا يصلح أن يكون السؤال سببا لأن يعيا عن الجواب. وظاهر القول يقتضيه ، فأما قوله :
لا تكلفنّ لي الدموع فإن لي |
|
دمعا ينمّ عليه إن لم يفضل |
ولقد سكنت إلى الصدود من النوى |
|
والشّري أري عند طعم الحنظل |
وكذاك طرفه حين أوجس ضربة |
|
في الرأس هان عليه فصد الأكحل |
فالبيت الأول مخالف لما عليه مذهبهم في طلب الإسعاد بالدموع والإسعاف بالبكاء. ومخالف لأول كلامه لأنه يفيد مخاطبة العذل. وهذا يفيد مخاطبة الرفيق. وقد بينت لك أن القوم يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها.
ولذلك قال الله عزوجل : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (١) فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم ، واللفظ كيف أطاعهم ، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم. وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب. ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن ، فصار بهذا أبلغ خطابهم. ثم لو أن هذا البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا ، لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر ، أو كلام متكلم.
وأما قوله : والشرى أرى ، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق ، ومن جهة التجنيس المقارب ، فهي كلمة ثقيلة على اللسان ، وهم يذمون نحو هذا. كما عابوا على أبي تمام قوله :
كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي |
|
ومتى ما لمته لمته وحدي |
ذكر لي الصاحب بن عباد : أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن القصيدة ، حتى انتهى إلى هذا البيت ، فذكر له أن قوله : أمدحه ، أمدحه ، معيب لثقله من جهة تدارك حروف الحلق.
ثم رأيت بعد ذلك المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة ، فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف. ثم إن قوله : عند أكل الحنظل ليس بحسن ولا واقع.
__________________
(١) آية (٢٢٤ : ٢٢٦) سورة الشعراء.