فإن لم تقنع بما قلت لك من الأبيات فتأمل غير ذلك من السور. هل تجد الجميع على ما وصفت لك. لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز. فكيف بالقرآن العظيم؟ ولو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى ، وأقنع ، وشفى.
ولو عرفت قدر قصة موسى وحدها من سورة الشعراء ، لما طلبت بينة سواها. بل قصة من قصصه وهي قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (١) إلى قوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي) (إِسْرائِيلَ. فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) (٢) حتى قال : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٣) ثم قصة إبراهيم عليهالسلام.
ثم لو لم تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن ، وهي قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٤) وهذه كلمات مفردة بفواصلها ؛ منها ما يتضمن فاتحة وفاصلة ، ومنها ما هي فاتحة وواصلة ، وفاصلة. ومنها كلمة بفاصلتها تامة ، دل على أنه نزله على قلبه ليكون نذيرا. وبيّن أنه آية لكونه نبينا. ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥).
فتأمل آية آية ، لتعرف الإعجاز ، وتتبين التصرف البديع ، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة. ثم راع المقطع العجيب وهو قوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٦) هل يحسن أن تأتي بمثل هذا الوعيد وأن تنظم مثل هذا النظم ، وأن تجد مثل هذه النظائر السابقة ، وتصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة؟
ولو لا كراهة الإملال ، لجئت إلى كل فصل فاستقريت على الترتيب كلماته ، وبينت لك ما في كل واحدة منها من البراعة ، ومن عجيب البلاغة. ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده ، وتستضيء بنوره وتهتدي بهداه. ونحن نذكر آيات أخر ، لتزداد استبصارا وتتقدم تيقنا.
__________________
(١) آية (٥٢) سورة الشعراء.
(٢) آية (٥٧ ـ ٦٠) سورة الشعراء.
(٣) آية (٦٣) سورة الشعراء.
(٤) آية (١٩٢ ـ ١٩٥) سورة الشعراء.
(٥) آية (٢١٤ ـ ٢١٥) سورة الشعراء.
(٦) آية (٢٢٧) سورة الشعراء.