وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (١) وهي خمس كلمات متباعدة في المواقع ، نائية المطارح ، قد جعلها النظم البديع أشد من الشيء المؤتلف في الأصل. وأحسن توافقا من المتطابق في أول الوضع.
ومثل هذه الآية قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) ومثلها : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٣) ومن المؤتلف قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٤) وهذه الثلاث كلمات كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر.
ومن الباب الآخر قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥) كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها لم تستوف ما استوفته.
ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم ، ونفور الطبع ، وشراد الكلام ، وتهافت القول ، وتمنّع جانبه ، وقصورك في الإيضاح عن واجبه. ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة ، ومن فصل إلى فصل حتى تتبين عليك مواضع الوصل ، ويستصعب عليك أماكن الفصل. ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة ، وأمثالا سائرة وحكما جليلة ، وأدلة على التوحيد بينة ، وكلمات في التنزيه والتحميد شريفة.
وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين ، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص؟ إنك لتراه إذا جاء إلى وصف واقعة ، أو نقل خبر عامي الكلام ، سوقي الخطاب ، مسترسلا في أمره ، متساهلا في كلامه ، عادلا عن المألوف من طبعه ، وناكبا عن المعهود من سجيته. فإن اتفق له في قصة كلام جيد ، كان قدر ثنتين أو ثلاثة. وكان ما زاد عليها حشوا ، وما تجاوزها لغوا ، ولا أقول إنها تخرج من عادته عفوا ، لأنه يقصر عن العفو ، ويقف دون العرف ، ويتعرض للركاكة.
__________________
(١) آية (٧٧) سورة القصص.
(٢) آية (٦٨) سورة القصص.
(٣) آية (٥٨) سورة القصص.
(٤) آية (٨١) سورة القصص.
(٥) آية (٨٨) سورة القصص.