تأمل من الكلام المؤتلف قوله : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١).
أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء الله تعالى ، وصفاته ، فانظر متى وجدت في كلام البشر وخطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر ، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني وحسن الفاتحة والخاتمة.
ثم اتل ما بعدها من الآي ، واعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء ؛ من احتجاج إلى وعيد ، ومن إعذار إلى إنذار ، ومن فنون من الأمر شتى ، مختلفة تأتلف بشريف النظم ، ومتباعدة تتقارب بعليّ الضم.
ثم جاء إلى قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٢) الآية الأولى أربعة فصول ، والثانية فصلان ، وجه الوقوف على شرف الكلام : أن تتأمل موقع قوله : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) (٣) وهل تقع في الحسن موقع قوله : (لِيَأْخُذُوهُ) (٤) كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة؟ لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه» أو «ليرجموه» أو «لينفوه» أو «ليطردوه» أو «ليهلكوه» أو «ليذلوه».؟ ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ، ولا بارعا ، ولا عجيبا ، ولا بالغا.
فانقد موضع هذه الكلمة ، وتعلم بها ما تذهب إليه من تخير الكلام ، وجميل الألفاظ ، والاهتداء للمعاني. فإن كنت تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التي عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على غرضنا من هذا الكتاب ، فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب ، فافزع إلى التقليد ، وأكف نفسك مئونة التفكير. وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله : (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة ، واتلاها تلو العذاب في الدنيا ، على الإحكام الذي رأيت.
ثم ذكر المؤمنين بالقرآن ، بعد ذكر المكذبين بالآيات والرسل ، فقال : (الَّذِينَ
__________________
(١) آية (١ : ٣) سورة غافر.
(٢) آية (٥ ، ٦) سورة غافر.
(٣) سبقت.
(٤) سبقت.
(٥) سبقت.