كلمة من هذه الكلمات وإن أنبأت عن قصة فهي بليغة بنفسها ، تامة في معناها.
ثم قال : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) فانظر إلى ما أجرى له الكلام من علو أمر هذا النداء ، وعظم شأن هذا الثناء ، وكيف انتظم مع الكلام الأول ، وكيف اتصل بتلك المقدمة ، وكيف وصل بها ما بعدها من الإخبار عن الربوبية ، وما دل به عليها ؛ من قلب العصا حية ، وجعلها دليلا يدله عليه ، ومعجزة تهديه إليه.
وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن ، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ، ثم ما شفع به هذه الآية ، وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء.
ثم انظر في آية آية ، وكلمة كلمة ، هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية ، وفي الدلالة آية. فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامّتها ذواتها ، تجري في الحسن مجراها ، وتأخذ في معناها؟
ثم من قصة إلى قصة ، ومن باب إلى باب ، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل ، وحتى يصوّر لك الفصل وصلا ، ببديع التأليف ، وبليغ التنزيل.
وإن أردت أن تتبين ما قلناه فضل تبيّن ، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقّق ، فإن كنت من أهل الصنعة ، فاعمد إلى قصة من هذه القصص ، وحديث من هذه الأحاديث ، فعبّر عنهن بعبارة من جهتك ، وأخبر عنه بألفاظ من عندك. حتى ترى فيما جئت به النقص الظاهر ، وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر. ولذلك أعاد قصة موسى في سور ، وعلى طرق شتى ، وفواصل مختلفة ، مع اتفاق المعنى.
فعلك ترجع إلى عقلك ، وتستر ما عندك ، إن غلطت في أمرك ، أو ذهبت في مذاهب وهمك ، أو سلّطت على نفسك وجه ظنك. متى تهيأ البليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة ، فيجعلها مؤتلفة من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج والتنقل. أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمّل.
وأحسب أنه لا يسلم من هذا ، ومحال أن يسلم منه حتى يظفر بمثل تلك الكلمات ، الأفراد ، والألفاظ الأعلام ، حتى يجمع بينها ، فيجلو فيها فقرة من كلامه ، وقطعة من قوله. ولو اتفق له في أحرف معدودة ، وأسطر قليلة ، فمتى يتّفق له في قدر ما نقول : إنه من القرآن معجز؟
__________________
(١) آية (٨) سورة النمل.