قدرته ونفاذ أمره.
أليس كل كلمة منها في نفسها غرة ، وبمنفردها درة؟ وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر ، ونفاذ القهر ، ويتجلى في بهجة القدرة ، ويتحلى بخالصة العزة ، ويجمع السلاسة إلى الرصانة ، والسلامة إلى المتانة ، والرونق الصافي والبهاء الضافي.
ولست أقول إنه شمل الإطباق المليح ، والإيجاز اللطيف ، والتعديل والتمثيل ، والتقريب والتشكيل ، وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه ، لأن العجيب ما بيّنا من انفراد كل كلمة بنفسها حتى تصلح أن تكون عين رسالة ، أو خطبة ، أو وجه قصيدة ، أو فقرة. فإذا ألفت ازدادت حسنا وزادتك إذا تأملت معرفة وإيمانا.
ثم تأمل قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (١) هل تجد كل لفظة وهل تعلم كل كلمة تستقل بالاشتمال على نهاية البديع ، وتتضمن شرط القول البليغ؟ فإذا كانت الآية تنتظم من البديع ، وتتألف من البلاغات ، فكيف لا تفوت حد المعهود ، ولا تجوز شأو المألوف؟ وكيف لا تجوز قصب السبق ، ولا تتعالى عن كلام الخلق؟
ثم اقصد إلى سورة تامة فتصرّف في معرفة قصصها ، وراع ما فيها من براهينها وقصصها. تأمل السورة التي يذكر فيها النمل وانظر في كل كلمة كلمة ، وفصل فصل بدأ بذكر السورة ، إلى أن بيّن أن القرآن من عنده ، فقال : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٢) ثم وصل بذلك قصة موسى عليهالسلام وأنه رأى نارا (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٣).
وقال في سورة طه في هذه القصة : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (٤) وفي موضع : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٥) قد تصرف في وجوه ، وأتى بذكر القصة على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك. ولهذا قال (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (٦) ليكون أبلغ في تعجيزهم وأظهر للحجة عليهم. وكل
__________________
(١) آية (٣٧ : ٣٩) سورة يس.
(٢) آية (٦) سورة النمل.
(٣) آية (٨) سورة النمل.
(٤) آية (١٠) سورة طه.
(٥) آية (٢٩) سورة القصص.
(٦) آية (٣٤) سورة الطور.