وإن كنت عن الطبقة خارجا ، وعن الإتقان بهذا الشأن خاليا ، فلا يكفيك البيان ، وإن استقرينا جميع شعره ، وتتبعنا عامة ألفاظه ، ودللنا على ما في كل حرف منه. اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة ، وأبيات متوسطة ، وأبيات ضعيفة مرذولة ، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة ، وأبيات معدودة بديعة.
وقد دللنا على المبتذل منها ، ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع ، ويهول القلب ، ويكدّ اللسان ، ويعبس معناه في وجه كل خاطر ، ويكفهر مطلعه على كل متأمل وناظر ، ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام ، ومخالف لما بنى عليه التفاهم الكلام. فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود ، ويلحق باللغز والإشارة المستبهمة. فأما الذي زعموا أنه من بديع هذا الشعر ، فهو قوله :
ويصحى فتيت المسك فوق فراشها |
|
تؤم الضّحى لم تنتطق عن تفضّل |
والمصراع الأخير عندهم بديع ، ومعنى ذلك : أنها مترفة متنعمة ، لها من يكفيها.
ومعنى قوله : لم تنتطق عن تفضل ، يقول : لم تنتطق وهو فضل. و «عن» هي بمعنى «بعد». قال أبو عبيدة : لم تنتطق فتعمل ، ولكنها تتفضل. ومما يعدونه من محاسنها :
وليل كموج البحر أرخى سدوله |
|
عليّ بأنواع الهموم ليبتلى |
فقلت له لما تمطى بصلبه |
|
وأردف أعجازا وناء بكلكل |
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي |
|
بصبح ، وما الإصباح منك بأمثل |
وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة :
كليني لهم يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطيء الكواكب |
وصدر أراح الليل عازب همّه |
|
تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب |
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض |
|
وليس الذي يتلو النجوم بآئب |
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء ، فقدمت أبيات امرئ القيس ، واستحسن استعارتها ، وقد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه ، ويبطئ تقضيه. وجعل له أردافا كثيرة ، وجعل له صلبا يمتد ويتطاول. ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة. ورأوا أن الألفاظ جميلة.
واعلم أن هذا صالح جميل ، وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب وفيه إلمام بالتكلف. ودخول في التعمل. وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله :
وقد اغتدي والطير في وكناتها |
|
بمنجرد قيد الأوابد هيكل |
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا |
|
كجلمود صخر حطّه السيل من عل |