البيت الأول قد قيل في تأويله : إنه ذكر الثوب وأراد البدن ، مثل قول الله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (١) وقال أبو عبيدة : هذا مثل للهجر ، وتنسل : تبين.
وهو بيت قليل المعنى ، ركيكة ووضيعه. وكل ما أضاف إلى نفسه ، ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف يوجب قطعه. فلم يحكم على نفسه بذلك ، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه. والتقصّي من وصله ، وأنه مهذب الأخلاق ، شريف الشمائل ، فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله.
والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب ، وإن كانت غريبة. وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها ، ومعناه ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشّرا ، أي مكسرا ، من قولهم : برمة أعشار ، إذا كانت قطعا هذا تأويل ذكره الأصمعي رضي الله عنه ، وهو أشبه عند أكثرهم.
وقال غيره : وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها. ويعني بسهميك ، المعلى وله سبعة أنصباء ، والرقيب وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع. ويعني بقوله : مقتل مذلل. وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة ، لما فيها من التناقض الذي بيّنا.
ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول ، لأن القائل إذا قال : ضرب فلان بسهمه في الهدف ، بمعنى أصابه ، كان كلاما ساقطا مرذولا. وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح ، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.
ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ ، ولكنه إذا حمل على الثاني فسد المعنى واختل ، لأنه إن كان محتاجا على ما وصف به نفسه من الصبابة ، فقلبه كله لها. فكيف يكون بكاؤه هو الذي يخلص قلبه لها؟
واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول ، ولا متصل به في المعنى ، وهو منقطع عنه ، لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها ، ولا سبب يوجب ذلك. فتركيبة هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال ، ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا وكان بديعا ولا عيب فيه ، فليس بعجيب لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض ، ونظمه كله متباين.
وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم
__________________
(١) آية (٤) سورة المدثر.