وأما تشبيه الشحم بالدّمقس ، فشيء يقع للعامة ، ويجري على ألسنتهم ، فليس بشيء قد سبق إليه ، وإنما زاد المفتّل للقافية ، وهذا مفيد. ومع ذلك ، فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة ، ولم يعدّ أهل الصنعة ذلك من البديع ، ورأوه قريبا.
وفيه شيء آخر ، وهو : أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم وإن سوّغ التبجيح بما أطعم للأضياف إلا أن يورد الكلام مورد المجون ، وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة. وقوله :
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة |
|
فقالت لك الويلات إنك مرجلي |
تقول وقد مال الغبيط بنا معا |
|
عقرت بعيري يا امرأ القيس فأنزل |
قوله : دخلت الخدر خدر عنيزة ، ذكره تكريرا لإقامة الوزن لا فائدة فيه. غيره ، ولا ملاحة ولا رونق. وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت : فقالت لك الويلات إنك مرجلى كلام مؤنث من كلام النساء ، نقله من جهته إلى شعره ، وليس فيه غير هذا. وتكريره بعد ذلك «تقول وقد مال الغبيط» يعني قتب الهودج بعد قوله : «فقالت لك الويلات إنك مرجلي» لا فائدة فيه غير تقدير الوزن ، وإلا فحكاية قولها الأول كاف ، وهو في النظم قبيح ، لأنه ذكر مرة «فقالت» ، ومرة «تقول» في معنى واحد وفصل خفيف.
وفي مصراع الثاني أيضا تأنيث من كلامهن ، وذكر أبو عبيدة أنه قال : عقرت بعيري ، ولم يقل ناقتي ؛ لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى ، وفيه نظر ؛ لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى ، واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن ، وقوله :
فقلت لها سيري وأرخى زمامه |
|
ولا تبعديني من جناك المعلّل |
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع |
|
فألهيتها عن ذي تمائم مغيل |
البيت الأول قريب النسج ، ليس له معنى بديع ، ولا لفظ شريف ، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة. وقوله فمثلك حبلى قد طرقت ، عابه عليه أهل العربية. ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام (فرب مثلك حبلى قد طرقت) وتقديره أنه زير نساء ، وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن ؛ لأن الحبلى والمرضعة أبعد من الغزل ، وطلب الرجال.
والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار والتهيام وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول. لأن تقديره لا تبعديني عن نفسك ، فإني أغلب النساء وأخدعهن عن رأيهن وأفسدهن بالتغازل. وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه. بل يوجب هجره والاستخفاف به ، لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش ، وركوبه كل مركب فاسد ، وفيه