ثم بعد ذلك ما كان أسرعها رجوعا ، وهما هاتان الخصلتان. وقال : ما اطلع الله على قلب فرأى فيه همّ الدنيا إلّا مقته ، والمقت أن يتركه ونفسه. والقلب لا يملكه أحد إلّا الله تعالى ، ولا يطيع أحدا إلّا الله ، فإذا ذكرت به فضع سرك مع الله ، فإنه ليس من أحد وضعت سرك عنده إلّا هتكه ، إلّا الله عزوجل. قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [١٢٧] قال : يعني سلم فيه من هواجس نفسه ووساوس عدوه. قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [١٢٩] أي ينتقم الله تعالى من الظالم بالظالم ، ثم ينتقم من الجميع بنفسه. قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [١٤٧] قال سهل : قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : من أعرض عنك فرغبه فيّ ، فإن من رغب فينا ففيك رغب لا غير ، فأطمعهم في الرحمة ، ولا تقطع قلبك عنهم (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [١٤٧].
قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [١٥١] ما ظهر منها ما نهى عن إتيانه بالجوارح الظاهرة ، وما بطن يعني الإصرار عليه هو على ضربين : فواحد يأتي بمعصية ويبقى مصرا عليها مقيما على إتيانها ، وآخر مصرّ على المعصية لمحبتها في القلب ، ولا يقدر أن يفعلها متى وجدها لضعف جوارحه ، وهو على أن يفعلها ، وهذا من أعظم الإصرار. وقال سهل : من أكل الحلال بالشهوة فهو مصرّ ، ومن جاوز حاله إلى الغد ما لم يأت الغد فهو مصر. فسئل عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين في التفكر فيما لا يعنيهم ، فقال : يجوز عليهم الفعل بالجوارح حتى تابوا إلى الله تعالى عن ذلك ، فكيف الفكرة. قيل له : هل للقلب من تعبد استعبده الله به دون الجوارح؟ فقال : نعم سكون القلب. قيل له : السكون هو الغرض أم العلم الذي به السكون؟ فقال : هو علم اسميه السكون ، يجر ذلك السكون إلى اليقين ، فالسكون مع اليقين فريضة.
قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [١٥٢] قال : تكلم أهل الصدق على أربعة أوجه ، قوم تكلموا في الله وبالله ولله ومع الله ، وقوم تكلموا في أنفسهم لأنفسهم فسلموا من آفة الكلام وقوم تكلموا في الخلق ونسوا أنفسهم وابتدعوا وضلوا ، وبئس ما صنعوا إلى أنفسهم. فاتركوا الكلام للعلم ، ثم تكلموا على الضرورة تسلموا من آفات الكلام. يعني أن لا تتكلم حتى تخاف من الإثم. ثم قال : من ظن [ظن السوء] (١) حرم اليقين ، ومن تكلم بما لا يعنيه حرم الصدق ، ومن شغل جوارحه في غير الله (٢) حرم الورع ، فإذا حرم العبد هذه الثلاث هلك ، وهو مثبت في ديوان
__________________
(١) ما بين القوسين إضافة من الحلية ١٠ / ١٩٦.
(٢) في الحلية ١٠ / ١٩٦ : (اشتغل بالفضول) مكان (شغل جوارحه في غير الله).