وداعا ، وخف الله يؤمنك ، وارجه يؤملك ، واتكل عليه يكفك ، وعليك بالخلوة تنقطع الآفات عنك. ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو لا مخافة الوسواس لرحلت إلى بلاد لا أنيس بها ، وهل يفسد الناس إلا الناس.
ثم قال سهل : مخالطة الولي بالناس ذل ، وتفرده عزّ ، وما رأيت أولياء الله تعالى إلا منفردين ، إن عبد الله بن صالح رحمهالله كان رجلا له سابقة جليلة وموهبة جزيلة ، وكان يفرّ من بلد إلى بلد ، حتى يأتي مكة ، فطال بها مقامه ، فقلت له : لقد طال مقامك بها. فقال : ولم لا أقيم بها ، ولم أر بقعة ينزل فيها من الرحمة والبركة مثلها يطوف الملائكة حول البيت غدوا وعشية على صور شتى ، لا يقطعون ذلك ، وإن فيها عجائب كثيرة ، ولو قلت كلما رأيت لصغرت عنه قلوب أقوام ليسوا بمؤمنين. فقلت : أسألك بحق الحق أن تخبرني بشيء من ذلك. فقال : ما من ولي لله تعالى صحّت ولايته إلا وهو يحضر في هذه البلد في كل ليلة جمعة ، ولقد رأيت رجلا يقال له مالك بن القاسم الجبلي رحمهالله تعالى ليلة هاهنا ورأيت على يده غمرا فقلت : إنك لقريب العهد بالأكل. فقال : أستغفر الله فإني منذ أسبوع لم أطعم شيئا ، ولكني أطعمت والدتي وأسرعت لأدرك صلاة الفجر هاهنا جماعة ، وبين مكة وبين الموضع الذي جاء منه سبعمائة فرسخ ، فهل أنت مؤمن بذلك؟ فقلت : بلى. فقال : الحمد لله الذي أراني مؤمنا مؤمنا (١).
وقال ابن سالم : كنت عند سهل رحمهالله تعالى ، فأتاه رجلان بعد صلاة العصر ، وجعلا يحدثانه ، فقلت في نفسي : لقد أبطأا عنده ، وما أراهما يرجعان في هذا الوقت ، وذهبت إلى منزلي لأهيىء لهما عشاء ، فلما رجعت إليه لم أر عنده أحدا ، فسألت عن حالهما ، فقال : إن أحدهما يصلي المغرب بالمشرق ، والآخر بالمغرب ، وإنما أتياني زائرين.
ولقد دخل سهل على رجل من عباد البصرة ، فرأى عنده بلبلة في قفص ، فقال : لمن هذه البلبلة؟ فقال : لهذا الصبي ، كان ابنا له ، قال : فأخرج سهل من كمه دينار فقال : بني أيما أحب إليك الدينار أم البلبلة؟ فقال : الدينار. فدفع إليه الدينار وأطلق البلبلة. قال : فقعد البلبل على حائط الدار حتى خرج سهل ، فجعل يرفرف فوق رأسه ، حتى دخل سهل داره ، وكان في داره سدرة فسكنت البلبلة السدرة ، فلم تزل فيها حتى مات ، فلما رفعوا جنازته جعلت ترفرف فوق جنازته والناس يبكون ، حتى جاؤوا بها إلى قبره ، فوقفت في ناحية حتى دفن وتفرق الناس عن قبره ، فلم تزل تضطرب على قبره حتى ماتت ، فدفنت بجنبه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________________
(١) صفوة الصفوة ٤ / ٢٥٤ (رقم ٧٨٨).