(هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي القاعدة التي ترجع إليها كل الآيات في معناها ، باعتبارها تمثل الحقيقة الحاسمة التي لا ريب فيها ولا التباس يمكن لأصحاب القلوب الزائغة استغلالها لحرف الناس عن جادة الحق والصواب. فعند هذه الآيات الأصل تلتقي كل حقائق المعرفة ، وإليها ترجع كل الاحتمالات. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) لا تملك من الوضوح في الدلالة على معناها ما تملكه الآيات المحكمات ، فقد يتردد معناها بين نوعين من المعاني من حيث تبادر المعنى الحقيقي من اللفظ عند إطلاقه ، فيخيّل للسامع أنه المراد منه ، ومن حيث وجود بعض القرائن الموحية بالمعنى المجازي أو الكنائي ، وذلك كما في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ، فإن كلمة الاستواء على العرش قد توحي بالجلوس عليه والاستقرار فوقه بالمعنى المادي بما يدل على التجسيم للذات الإلهية ، تماما كبقية الأجسام التي يعرض عليها القيام والقعود.
وقد يكون المراد به الاستواء المعنوي بمعنى السيطرة والهيمنة على الملك من حيث استعارته كلمة العرش للملك وكلمة الاستواء للسيطرة ، فيدور الأمر بينهما ، فنرجع إلى الآية المحكمة التي لا مجال فيها لأيّ تأويل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، التي تنفي عن الله ـ بكل وضوح وصراحة ـ كل مماثل في الذات ، فتنفي عنه مماثلته للمخلوقات في الجسد ، فيتعين المعنى الثاني الذي يبدو واضحا محكما بلحاظ هذه الآية.
وهكذا نلتقي بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، فإنها توحي ـ في البداية ـ من خلال معنى الإبصار المنفتح على الله بشكل حسيّ تماما كما لو كان جسما يرى ، لأن معنى اللفظ ـ بحسب الوضع ـ هو ذلك ، ولكننا إذا قارناه بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] ، التي تدل دلالة واضحة على امتناع إدراك