الأحجار أو غيرها إلا كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا ، ولا نحقق الحجر ولا غيره. وكنا نجهد كل الجهد أن نقرأ رشم الغباري (١) الذي في جانب الطريق لحساب الأميال ، مع كونها مرشومة بالسواد في أحجار بيضاء بحروف غليظة قدر الإصبع ، فلا نحققها ولا يستقر بصرنا عليها لسرعة السير. وزعموا أنهم إذا أوصلوا هذه الطريق بالحديد من مرسيليا لباريز تكون المسافة بينهما بالمرور فيها نحو يوم وليلة.
ولهم في هذه الطريق وفي غيرها من طرق الحديد بابورات متعددة تذهب وتجيء. ولكن كل بابور له ساعة معينة معلومة لا يسافر إلا فيها ، خوف أن يلتقي اثنان في محل واحد فيتصادما ويمنع كل منهما مرور الآخر. والغالب أن يجعلوا في الطريق الواحدة ممرين لبابورين فيمكن أن يذهبا معا ، لاكن كل واحد في ممره. وإن كانا متسامتين ويكون أحدهما ذاهبا والآخر راجعا وكل واحد في محله ، ويلتقيان فلا يلتطمان ولا يتناطحان ، لأن لكل واحد ممره على حدته ، وربما جعلوا فيها ثلاثة.
وهذا الطريق مقصورة على هذا البابور لا يمر فيها راجل ولا راكب ، وفيها لأجل ذالك حرس وعسس خوفا من مصادمة البابور أو من يلقاه فيها. وإذا رءاه الماشي فيها على غفلة قد لا يمكنه الانحراف عنه حتى يصل إليه لشدة سرعته ، ولذالك جعلوا في هذا البابور صفارات يسمع تصفيرها من بعيد ليعلم أنه جاء ليلا ياتيه على غفلة. وإذا كان بابور آخر جائيا لوجهه فيعلم به فيعمل بحسابه. وإذا أراد الرءيس أن يوقف هذا البابور في أثناء الطريق أوقفه ، ولا بد له من الوقوف لأجل تبديل الماء الذي يحرك بخاره النواعير. ومع ذالك فقد يجعلون في هذه الطريق محالا بسبائك الحديد في جانب الطريق لينحرف يمينا أو شمالا إذا عرض له عارض ، لكن في بعضها لا في كلها.
وشأن هذه الطريق أن تكون سهلة مستوية لا عقبة فيها ولا انحدار ، فإذا عرض لهم جبل رفعوا الميزان عليه من بعيد فلا تبقى عقبة. وإذا لم يمكنهم ذالك ولا محيد لهم عن المرور فيه ، فإنهم يشقون الطريق في بطنه تحت الأرض حتى تنفد إلى خارجه ، ويقيلون عليها بالبناء بإحكام وإتقان ، ويمرون في بطن الجبل حتى يجاوزونه.
__________________
(١) يقصد بها الصفار الصوى (مفردها صوة) التي هي أحجار منبثة بطريقة منتظمة على جوانب طول الطريق وتكتب عليها أعداد الأميال الفاصلة بين نقط انطلاق المسافرين ونقط وصولهم حتى تكون دليلا لهم في الطريق. وأما لفظة رشم الغباري فتعني الأرقام العربية (المعرب).