خلال صفحات الرحلة قد كانتا أيضا من الصفات المطلوبة في الأوساط المخزنية ، وأن ما اتصف به الرجل من ذكاء ولباقة سبق أن مكناه من إيجاد الطريق التي أدت به إلى فرنسا ، قد كانت كذلك من بين المزايا المطلوبة أيضا في حاشية البلاط السلطاني. لكن ، حتى يمكننا اكتشاف خصوصيات الرجل وتجربته الفريدة ، فإننا ملزمون بالعودة إلى الرحلة ذاتها. وكما أن الحديث عن فصول حياة محمد الصفار يعزز فهمنا لمضمون رحلته ، كذلك ستساهم قراءتنا لمتن الرحلة في تعميق معرفتنا بجوانب إضافية من حياته.
صدفة اللقاء مع الجديد
تكمن أهمية رحلة الصفار إلى فرنسا ودلالاتها العميقة ، في ما تتميز به من فرادة وطابع عالمي. وقد انبعث ، من خلال صفحات الرحلة ، صوت من الماضي حيا بكل ما في الكلمة من معنى ، ليتيح لنا فرصة الدخول إلى عالم يبدو اقتحامه أمرا عسيرا. وإذا كانت قيمة الكتابات الخاصة بالرحلات تكمن في حرفيتها وفي ما تتميز به من «إحالة مستمرة على الحاضر» (١) ، فإننا نجد أنفسنا هنا أمام ما هو واقعي.
إن الواقعة المشعة ، والانطباع القائم على أساس سذاجة مستبصرة يحتويان في داخلهما على جانب روائي إنساني. ونتيجة لمعرفتنا المحدودة بالعصر ، وفي غياب أصوات أخرى تتكلم بوضوح مماثل ، فإن خصوصيات الرحلة هي التي ستوسع درجات فهمنا.
غير أن الرحلة تضرب أيضا على أوتار تتجاوز ما هو واقعي ، وخاصة حينما يفحص النص بنظرات وعيون أخرى غير النظرة التاريخية الصرفة. وأقترح في هذا القسم ، تقديم بعض الطرق الهادفة إلى تأويل رحلة الصفار التي تنطوي على مستويات عميقة المعاني. وكانت لدى الأنثروبولوجيين تبصرات بطبيعة التجربة المكتسبة من خلال الرحلات ، كما أسهب النقاد الأدبيون في الحديث عن بنية
__________________
(١) Paul Fussell, Abroad : British Literary Traveling between the Wars) New York, ٠٨٩١ (, p. ٣٠٢.
ويبدو المدى الذي أثر به عمل فوسيل النقدي في قراءتي للصفار واضحا.