ومررنا في طريقنا هذه على مدن وقرى ، وأراضى وطاء وجبال وربى. واعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم أخصاص (١) ، ولا خيم ولا نوايل (٢) ، وإنما يعرفون البناء لا غير. إلا أن بناء البوادي متميز عن بناء الحواضر ، فقراهم في الحقيقة من جملة المدن يوجد فيها ما يوجد في الحاضرة من الأسواق وما يباع فيها وغير ذالك. وقد رأينا في طريقنا هذه ما يشهد شهادة حق لأهل هذه البلاد بالاعتناء التام والتبصر العام بأمور دنياهم وإصلاح معاشهم وإتقان تدبيرهم. فهم جادون كل الجد في عمارة الأرض بالبناء والغرس وغيره ، لا يسلكون في ذالك طريق التساهل ولا يصحبهم فيه تغافل ولا تكاسل. فلا ترى عندهم شيئا من الأرض ضائعا أصلا ، ولا ترى عندهم خرابا ولا أرضا مواتا (٣) حتى أن الأرض التي ترابها رديء ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى. ويعطون لكل نوع من الأرض ما يستحقه ، فما يصلح للحرث يحرث وما يصلح للغرس يغرس ، ويفرقون أيضا في الغرس بين ما يصلح في الأرض الحارة والباردة وهكذا ، وما يصلح لحفر تراب البناء والحجر يتركونه له وهكذا.
وأشجارهم كلها أو جلها مستنبتة ولو كانت في رؤوس الجبال أو بطون الأودية (٤) ، ولا يحاشون من ذالك موضعا. حتى أنهم يغرسون الأشجار في مجاري
__________________
(١) مفردها الخص ، وجمعها أخصاص وخصوص وخصاص ، وهي البيت المصنوع من القش أو القصب أو من أغصان الشجر. ٣٧٥ : ١Dozy (المعرب).
(٢) مفردها نوالة ، وفي الإسبانية (naguela) ، وهي مسكن من القش أو القصب غالبا ما يوجد في بوادي شمال المغرب. ٧٤٧ ـ ٧٤٦ : ٢Dozy (المعرب).
(٣) لاحظ جون دراموندهاي أثناء تنقلاته أن البادية الممتدة بين مدينتي طنجة والرباط «تكاد تكون خالية من السكان» ، وأضاف مشيرا إلى أن المناطق الممتدة مباشرة في اتجاه الجنوب تتوفر على «بادية ذات مجالات زراعية محروثة حرثا جيدا أفضل مما سبق أن رأيناه إلى ذلك الحين ، [...] حيث بدت لنا حقول ناظرة من القمح والشعير» :
Journal, p. ٤٥ ؛ وانظر أيضا : Laroui ,Origines ,٤٣ ـ ٨٣
(٤) كانت الغابات في المغرب معرضة للخطر بفعل استعمالها المكثف كمجال رعوي : «كان الماعز يبذل قصارى جهده لابتلاع البراعم والنباتات الجديدة ، بينما استمر سكان البلاد في ممارسة عادتهم القبيحة ، وهي تحطيم جذوع الأشجار لاستخدام خشبها في تحضير الفحم ، واستعمال الأغصان الشائكة لتزريب حقولهم» ، انظر : Aubin ,Morocco ,p.٢١.