كبيرتين هما «العلوم النقلية الوضعية» و «العلوم الحكمية الفلسفية» ؛ فالمجموعة الثانية تشارك فيها جميع الشعوب وهى تراث البشرية بأجمعها أما الأولى فهى خاصة بالمسلمين وحدهم وأداتها هى اللغة العربية وهو يقصد بها أساسا ما يمكن أن يطلق عليه اسم العلوم الشرعية. ويتفق تقسيمه بوجه عام مع التصنيف الثلاثى Trivium و «الرباعى» quadrivium للعلوم السائد فى العصور الوسطى وينطبق فى واقع الأمر على نفس ذلك التصنيف الذى نجده فى معجم المصطلحات المشهور «مفاتيح العلوم» (١٥). وبما أن ابن خلدون يختتم قسم الرياضيات بالكلام على الفلك («الهيئة») فهو يضم إلى هذا الأخير «علم الأزياج» (١٦) الذى يتضمن المعلومات فى الجغرافيا الرياضية ؛ وعلى هذا فلا يوجد مجال للكلام على الجغرافيا الطبيعية والوصفية فى تصنيف ابن خلدون. وعلى الرغم من ذلك فلم يكن فى مقدور ابن خلدون أن يعارض الواقع ومن ثم فقد اضطر إلى أن يفرد قسما فى مقدمته ليعرض فيه المذهب التقليدى عند الجغرافيين العرب.
وهذا القسم بدوره مثار لخيبة أمل لا تقل عن سابقتها لأن مادته لا تخرج عن نطاق المعلومات المعروفة لنا جيدا ، وهو يمثل «المقدمة الثانية» من «الفصل الأول» من «الكتاب الأول» من مصنفه فى التاريخ (١٧) (١). ولهذه «المقدمة الثانية» فى الجغرافيا «تكملة» (١٨) يليها «تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا (١٩)». والفصل الأول من مقدمة ابن خلدون مكرس برمته لمسائل «العمران» عامة (٢٠) ؛ وتبحث «المقدمة الأولى» من هذا الفصل «فى أن الاجتماع الإنسانى ضرورى» (٢١) ، ثم تليها «المقدمة الثانية» فى الجغرافيا بعنوان «فى قسط العمران من الأرض والإشارة إلى بعض ما فيه من البحار والأنهار والأقاليم». ويبدأ ابن خلدون كلامه عن الجغرافيا بالوصف المعتاد لشكل الأرض ، وهو يعتبرها كرة يمثل اليابس نصف سطحها فقط ويمثل المعمور مقدار الربع من هذا اليابس وينقسم بدوره إلى سبعة أقاليم ؛ وكل واحد من هذه الأقاليم ينقسم بدوره أيضا إلى عشرة أجزاء. ويبدو من كلامه أن مصدريه الأساسيين هما بطلميوس والإدريسى ، وهو يشير بصراحة إلى ذلك (٢٢) ففى سرده للبحار والأنهار الذى سبق لنا معرفته جيدا يقول ابن خلدون ما نصه : «وقد ذكر ذلك كله بطلميوس فى كتابه والشريف فى كتابه رجار وصوروا فى الجغرافيا جميع ما فى المعمور من الجبال والبحار والأودية واستوفوا من ذلك ما لا حاجة لنا به لطوله ولأن عنايتنا فى الأكثر إنما هى بالمغرب الذى هو وطن البربر وبالأوطان التى للعرب من المشرق (٢٣) (٢)».
__________________
(*) مما لا شك فيه أن ابن خلدون لم يطلق اسم «المقدمة» على الكتاب المعروف لدينا تحت هذا الاسم ولم يعتبره مطلقا كتابا مستقلا بل اعتبره دائما «الكتاب الأول» من مصنفه التاريخى «العبر». (المترجم)
(**) لم يلبث ابن خلدون أن عدل عن ذلك وأكمل هذه النبذة بتفصيلات كثيرة تحت عنوان «تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا» وكان من الواجب عليه حذف هذه الألفاظ ولكن يلوح أنه غفل عن ذلك فظلت مثبتة فى جميع النسخ الخطية. ومن الملاحظ أن ابن خلدون قد تناول المسودة الأولى لمصنفه بالتنقيح والإضافة ، وفاته أحيانا أن يحذف أو يعدل ما يتعارض مع هذه الإضافات فى المسودة الأولى فجاءت المسودات التالية مشتملة فى بعض المواطن على الأصل والزيادة معا مع تعارضهما فيما يقررانه.
وهذا ما حدث فعلا عند كلامه فى الجغرافيا. (المترجم)