الحكم على الطابع العام للكتاب من ألفاظ ابن جزى التى استشهدنا بها فى سياق هذا الفصل ومن تحليل شخصيته كأديب ، فهو على ما يبدو من أدباء عصر التدهور وقد بقى لنا من آثاره ترجمة لسيرة حياته (Autobiography) ومصنف فى نسب النبى (٩٤). وقد ولد ابن جزى بغرناطة وشغل منصب الكاتب لدى السلطان أبى الحجاج يوسف من بنى نصر (٧٣٣ ه ـ ٧٥٥ ه ـ ١٣٣٣ ـ ١٣٥٤) ثم لم يلبث أن اختلف معه فرحل عنه ليشغل نفس المنصب فى بلاط السلطان أبى عنان الذى عرف كيف يجتذبه إلى شخصه. وأتم ابن جزى عمله فى ثلاثة أشهر فقد انتهى من «تقييد» ألفاظ ابن بطوطة فى ديسمبر من عام ٧٥٦ ه ـ ١٣٥٥ (٩٥) وفى فبراير من العام التالى كان قد أكمل صياغتها (٩٦) ؛ ولم يعش طويلا بعد هذا فقد وافته المنية فى نفس العام (٩٧). وعلينا أن نأخذ دائما فى اعتبارنا جميع الظروف التى تم فيها تدوين الرحلة بحيث أننا إذا ما قسونا فى حكمنا على ابن بطوطة فيجب ألا ننسى أن كثيرا من اللوم الموجه إليه يمكن أن يكون ناشئا عن ابن جزى.
ويمس هذا قبل كل شىء الإطار العام للكتاب الذى هو من وضع ابن جزى فهو يفتقر فى كثير من الأحيان إلى التناسب والتناسق ؛ ويمكن من خلال الشذور التى اقتطفناها أن نحكم على الأسلوب المتكلف الذى لجأ إليه ابن جزى وميله الواضح إلى السجع والإطناب وهى على أيه حال من سمات عصر التدهور. ومن حسن الحظ أن أسلوب الكتاب لا يسير فى جميع صفحاته على وتيرة واحدة إذ كثيرا ما تتخلل العرض لغة ابن بطوطة القصصية البسيطة التى تميل أحيانا نحو لغة المحادثة محتفظة فى ذات الوقت برزانتها وغناها بالتفاصيل فوق ما تتميز به من الحيوية الدفاقة والعاطفة الجياشة. وإلى جانبها يبدو أسلوب ابن جزى ثقيلا يغلب عليه الحشو والتكلف كما تنعكس فيه على الدوام محاولة واضحة إلى جمع قصص ابن بطوطة المتفرقة فى وحدة متماسكة وتزويقها بصورة تجعلها أقرب إلى النصوص الأدبية (٩٨). وهو يقتطف من أشعار مختلف الشعراء ، أحيانا دون مناسبة تستوجب ذلك وبلا أدنى صلة تربطها بموضوع كلامه ؛ وغرضه من هذا أن يكسب كلام ابن بطوطة حيوية أكثر. وأغلب الظن أن ابن جزى قد لجأ إلى الطريقة القديمة فى تضمين الأوصاف المأخوذة من المؤلفين السابقين فى سياق عرضه دون أن يهتم بالإشارة إلى أسمائهم ؛ ومن الإجحاف اتهام ابن بطوطة بادعاء المعرفة والعلم بالكتب فهو رجل يحب القصص ولكنه يفضل حكايتها بألفاظه هو ومن المشكوك فيه أن يكون هو المسئول عن تضمين قطع كبيرة من كلام ابن جبير فى وصف الشام وبلاد العرب دون أن يشير إلى المؤلف ، إلا أنه من الطبيعى أن يكون ابن جزى الغرناطى الأصل على معرفة جيدة بالأسلوب المصقول لمواطنه الأندلسى ابن جبير خاصة وأن الأخير كان بوجه عام محببا إلى قلوب أهل بلده فلا غرو أن أراد ابن جزى تحلبة مؤلفه بإضافة تلك القطع إليه.
إن دور ابن جزى فى تحرير الكتاب كانت له آثار بعيدة فقد جهد فى أن يضفى على المصنف طابعا