ولعل مصنف ابن القاص لم يكن ليتمتع بشىء من الذيوع لو اقتصر الأمر على المخطوطة الوحيدة التى أمكن الكشف عنها حتى الآن ، ففى الواقع أن آثار معرفة الآخرين به يمكن ملاحظتها لدى عالم رزين كالبيرونى ؛ غير أن الطريف فى الأمر أن البيرونى لا يرجع إليه فيما يتعلق بمسائل الجغرافيا الرياضية بل بصدد قصة «النار المباركة» فى بيت المقدس (١٢٠) ، ولكن من الجائز أن يكون الدافع الذى حفز البيرونى إلى التعرف عليه هو القسم الفلكى الرياضى من كتابه.
ومثل ابن القاص ليس هو الفريد لعالم عربى ترك لنا مصنفا فى الجغرافيا دون أن يكون هو نفسه عالما جغرافيا أو رحالة ، فالمؤلفات التى ترتبط بالجغرافيا من جانب واحد لا تقع تحت حصر ، غير أن إغفال ذكرها من شأنه أن يقدم صورة ناقصة للعرض العام لتاريخ الأدب الجغرافى. ويهمنا من وجهة نظرنا هذه فى القرن العاشر تلك المؤلفات الببليوغرافية والاصطلاحية الفريدة فى نوعها ، وكذلك بعض مصنفات أخرى يمكن فى أحوال أخرى أن تندرج فى محيط الأدب الفنى.
لقد وضح فى الفصول السابقة من هذا الكتاب إلى أى مدى كان اعتمادنا على كتاب «الفهرست» المشهور ، ذلك الكتاب الذى يعتبر محاولة فريدة فى نوعها لعرض تاريخ الأدب العربى (١٢١). وهو قد أصبح مرجعا عاما فى جميع فروع التاريخ والأدب والعلم العربية مند السنوات السبعينات من القرن التاسع عشر بفضل الطبعة التى عنى بتحضيرها فليغل Flügel والتى لم تر النور إلا بعد وفاته. وفى العشرين عاما الأخيرة فقط بدأت تبرز إلى الوجود إمكانية تكوين فكرة عامة عن الكتاب فى مجموعه بصورة أكثر دقة ووضوحا ، كما بدت الحاجة ماسة إلى إخراج طبعة علمية جديدة له رغما عن المجهود الكبير الذى كان قد بذله فليغل. ولم يكن السبب فى هذا هو الكشف عن مخطوطات جديدة للكتاب باستنبول فحسب ، بل أيضا التطور العام لمنهج البحث العلمى منذ السنوات السبعينات (١٢٢).
أما عن المؤلف نفسه فلا نعرف الكثير ، كما هو الشأن مع عدد غفير من المؤلفين. وجميع معلوماتنا عنه بالتقريب يجب استنباطها من كتابه نفسه (١٢٣) ، فاسمه الكامل وفقا لمخطوطات الكتاب هو أبو الفرج محمد بن إسحاق النديم الوراق البغدادى ، ومن هذا يتبين أن أباه كان يتاجر فى الكتب ببغداد. ويبدو أنه صحب أباه فى شئون تتعلق بتجارة الكتب فزار الموصل مرارا ؛ أما الزعم القائل بأنه قد زار القسطنطينية ، ذلك الزعم الذى لا يزال يتردد فى الأوساط العلمية إلى أيامنا هذه (١٢٤) ، فيستند على محض سهو لفت إليه الأنظار منذ عهد طويل المستشرق روزن. ويمكن أن نلمس فى كتاب ابن النديم وجود عواطف معينة نحو الشيعة.
وفى عام ٣٧٧ ه ـ ٩٨٧ ـ ٩٨٨ فكر ابن النديم فى وضع مصنف من أجل الوراقين ومحبى الكتب ، واتخذ لنفسه غاية معينة ذكرها فى مقدمة كتابه حيث يقول :