ولنشر آرائهم بين الناس قامت الجماعة بوضع إحدى وخمسين رسالة دون الإشارة إلى أسماء المؤلفين ؛ وقد حاولوا فى هذه الرسائل التقريب بين المنقول والمعقول ووضع فلسفة دينية جديدة (٧٠) : هذا وقد ظهرت هذه الموسوعة الفريدة فى نوعها فى بداية النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) (٧١) ، على أية حال ليس بعد عام ٣٧٣ ه ـ ٩٨٣ إذ كان على معرفة جيدة بها الفيلسوف الأديب أبو حيان التوحيدى الذى يقدم لنا وصفا دقيقا لهذه الجماعة (٧٢) ولكنه كما هو العهد به دائما لا يخلو من السخرية فى وصفه. هذا وقد أحاطت رسائلهم بجميع العلوم التى كانت سائدة فى ذلك العصر ، من علوم تربوية ودينية وفلسفية ، مع جنوح واضح إلى المذهب اليونانى (٧٣). واختيار المادة عندهم يتخذ طابعا انتقائيا ملحوظا ، فالأساس عندهم هو التقافة اليونانية والعلم اليونانى ولكن يبصر لديهم بوضوح أيضا نفوذ الثنائية الغنوصية (Gnostic Dualism) والنظريات الإيرانية فى العناية الإلهية (٧٤). وفى صلتهم بالعلم اليونانى بل وحتى فيما يتعلق بنظرتهم الفلسفية العامة إلى الوجود فإن أرسطو كان يأتى عندهم فى المرتبة الثانية عند مقارنته بهرمس Hermes وسقراط وأفلاطون وفيثاغورس (٧٥) الذى تنال نظريته فى الأعداد أهمية خاصا بينهم ، ومعرفتهم العامة بالفلسفة اليونانية تغلب عليها السطحية عند المقارنة بالكندى والفارابى (٧٦). وفى بعض المخطوطات تضاف إلى الرسالة الحادية والعشرين عن الحيوان حكاية رمزية غريبة «فى شكوى الحيوانات من الإنسان أمام ملك الجن (٧٧)» ، وهى بمثابة تلخيص لجميع الأفكار الأساسية للرسائل بما فى ذلك الأفكار الجغرافية ؛ بل وتمتاز بأهمية أدبية فريدة ويمكن أن يبصر فى أسلوبها فى الكلام على على ألسنة الحيوان تأثير كتاب «كليلة ودمنة» الذى أخذت هذه الجماعة اسمها منه.
وعلاقة العلوم المختلفة التى تعالجها هذه الموسوعة ببعضها البعض تبدو فى عدد الرسائل المفردة لكل منها ، فالرياضة والمنطق أفرد لهما أربع عشرة رسالة ، والعلوم الطبيعية سبع عشرة رسالة ، بينما ظفرت الميتافيزيقيا وعلم النفس بعشرة رسائل ، والتصوف والتنجيم والسحر بإحدى عشرة رسالة (٧٨). والفكرة الأساسية التى يقوم عليها هذا المصنف الجماعى يمكن تلخيصها فى أن كل ما يحدث فى العالم السفلى إنما هو انعكاس للعالم العلوى فحسب ، وأن كل ما يحدث على الأرض إنما يخضع لحركات النجوم (٧٩). وعلى ذلك فليس من العسير أن نتكهن بنوع الجغرافيا التى يمكن أن نجدها لديهم ؛ وقد أفردت لها رسالة خاصة هى «الرسالة الخامسة فى العلوم التعليمية فى الجغرافيا أى صورة الأرض والأقاليم» (٨٠) ، وموضعها فى القسم الأول بين الفلك والموسيقى وذلك فى المجموعة العامة التى تشمل العلوم الرياضية والطبيعية ، الأمر الذى يفهم منه أننا إزاء عرض موجز للجغرافيا الفلكية الرياضية وفقا للمذهب اليونانى ، أى للنظريات البطلميوسية. وفى بداية الرسالة توكّد النظرية القائلة بأن الأرض مركز الوجود (٨١) ، ويتلو هذا وصف الربع المعمور (٨٢) والأقاليم السبعة (٨٣) كل على حدة. ويستغرق هذا الجزء الأكبر من موضوع الرسالة (٨٤) ، ثم يختتم كل ذلك كما هى العادة بعدد من الاستنباطات ذات طابع تعليمى (Didactic) القصد منها توضيح المغزى الباطنى للظواهر المحسوسة ؛ وإحدى قطع هذا القسم وهى المتعلقة بالشرق الأقصى والتى قام