على نفسه بالكثير من الصواب فيقول «ولا أعنى بذلك أن كتابه فى الجغرافيا يفوق المؤلفات الحديثة فى هذا الفن ، إذ يعوزه من أجل ذلك تجربة الأجيال التالية. ولكن من المحتمل أنه لم يسبقه شخص فى اتساع مجال أسفاره وعمق ملاحظاته وإخضاعه المادة التى جمعها لصياغة منظمة» (٦٥).
ولعل اسمه فى حاجة إلى بعض التوضيح ، فهو كمعظم المؤلفين العرب غير معروف باسمه الكامل الذى يرد على صفحة العنوان بإحدى مخطوطات كتابه (٦٦) وهو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر البنّاء الشامى المقدسى البشارى ؛ ولكنه اشتهر فى الغالب بإحدى نسبتيه الأخيرتين. والأولى منهما ترتبط بالاسم الذى أطلقه العرب على أورشليم التى إلى جانب «القدس» تدعى أيضا «البيت المقدّس» أو «بيت المقدس» ، هذه الصيغة الأخيرة هى التى يتمسك بها اللغويون المتشددون (٦٧) ولا تزال تحتفظ بها إلى يومنا هذا إحدى الأسر العربية الكبرى وهى أسرة المقدسى (ينطقه العامة غالبا بضم الميم) ؛ غير أن صيغة المقدّسى واسعة الانتشار كذلك ؛ ولعل المؤلف نفسه يشير إلى هذه الصيغة الأخيرة فى قطعة شعرية يختتم بها كتابه حيث يجرى لعبا بالألفاظ حول تعبير «حكمة مقدسّة» (٦٨). وياقوت فى القرن الثالث عشر كان يدعوه فى معظم الأحوال بنسبته البشّارى وأحيانا بأسمائه الأخرى مثل ابن البنّاء؟؟؟ مثلا.
والاسم الأخير يرتبط بتاريخ حياته ، فقد ولد المقدسى فى عام ٣٣٥ ه ـ ٩٤٦ ـ ٩٤٧ بيت المقدس وكان حفيدا لبنّاء اشتهر ببنائه لميناء عكا فى عهد أحمد بن طولون ؛ وتنعكس فى كتاب حفيده نفسه بين آونة وأخرى ميوله المعمارية التى ربما ورثها عن جده. أما أسرة أمه فتنتمى إلى قرية بير من أعمال قومس على مقربة من حدود خراسان وقد يسرت له عوامل النسب والقرابة التعرف على نصف العالم الإسلامى ، ودفعه ولعه بالأسفار إلى زيارة جميع أنحائه باستثناء الأندلس والسند وربما سجستان أيضا. ويلوح أنه قد زار صقلية كما أثبت ذلك أمارى Amari الذى حلل روايته عن تلك الجزيرة (٦٩) ؛ أما معلوماته عن الأندلس فقد نقلها كما يذكر هو نفسه عن حاجين التقى بهما فى مكة عام ٣٧٧ ه ـ ٩٨٧ (٧٠). ولكن معلوماته عنها كما بين دوزى Dozy (٧١) يسودها بعض الاضطراب وتفتقر إلى الكثير من الوضوح. ويلاحظ منها أن المؤلف لعدم معرفته المباشرة بتلك البلاد لم يكن بوسعه أن يفهم دائما ما يروى له ؛ ورغما عن هذا فإن روايته هذه مفيدة بل وقيمة جدا فى بعض الأحايين.
ونتيجة لرحلاته الواسعة واستفهاماته العديدة ونشاطه الجم فى محيط الأدب والكارتوغرافيا فقد استطاع المقدسى وهو فى سن الأربعين أن يضع كتابه «أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم». ويبدو أن الكتاب قد وجد فى مسودتين ترتفع إحداهما وفقا لألفاظ المؤلف نفسه إلى عام ٣٧٥ ه ـ ٩٨٥ ـ ٩٨٦ (٧٢) ، أما الثانية وهى التى استعملها ياقوت فقد أكملت بعد ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ وذلك فى عام ٣٧٨ ه ـ ٩٨٨ ـ ٩٨٩ (٧٣). ولا يخلو من مغزى بالنسبة للأوضاع السياسية فى ذلك العهد أنه رفع المسودة الأولى