هذا وقد أدت المقارنة بين القزوينى والبكرى إلى ظهور فكرة معقدة لدى ياكوب عن وجود شخصيتين عربيتين زارتا ألمانيا ، وهو ما يسمى بفرض (hypothesis) «إبراهيم ـ الطرطوشى» الذى أصر عليه ياكوب أكثر من مرة خلال اثنين وأربعين عاما (٦٠) ، رغما عن أنه قد جر أحيانا إلى اعتراضات شديدة بسبب غرابته ومجافاته للواقع. وجوهر فكرة ياكوب يمكن إيجازه فيما يلى (٦١) :
فى وقت واحد بالتقريب وعلى حدة وجه الحكام العرب سفارتين إلى بلاط أوتو الأول ، إحداهما بعث بها الفاطميون من شمال أفريقيا بطريق البحر إلى إيطاليا فجنوب ألمانيا. أما الثانية وهى سفارة خليفة قرطبة فقد بدأت سيرها من أسبانيا وسارت فى محاذاة الأطلنطى وبحر الشمال مارة فى طريقها على بوردو وروان وأوترخت ، تم عبرت شلزفيج إلى بادربورن وسست وفلدا إلى ماينز. وقد اشترك فى هاتين الرحلتين شخصيتان تركت كل منهما وصفا لرحلتها ، ويحمل كل منهما اسم إبراهيم بطريق الصدفة. فالسفارة التى خرجت من أفريقيا صحبها إبراهيم بن يعقوب وهو يهودى مغربى ، بينما صحب سفارة قرطبة إبراهيم بن أحمد الطرطوشى. وقد استقبل أوتو الأول كلا السفارتين فى عام ٩٦٥ بمجدبرج واستمع كلا الرجلين إلى حديث الإمبراطور عن أقطار أوروبا الوسطى. وعند عودتهما دوّن كل منهما انطباعاته وما سمعه عن الإمبراطور. وعلى هذا الأساس يمكن تفسير اتفاقهما فى تفاصيل القصة.
ورغما عما يحيط بهذا الفرض من التكلف والصنعة فإنه يقوم على أساس الاختلاف فى أسمى الرجلين كما ورد فى الشذور المتبقاة والتى باستثناء هذا تتفق فى فحواها. والبكرى يدعوه عادة إبراهيم بن يعقوب ، بينما يدعوه القزوينى بالطرطوشى ، ولكن يرد لديه مرة فى صورة «إبراهيم بن أحمد». ومن هذه الصورة الأخيرة يتضح أنه مسلم وليس يهوديا ، الأمر الذى لا يرتقى إليه الشك فيما يتعلق بمصدر البكرى (٦٢). هذه المسألة المعقدة قد حلها العالم البولندى كوفالسكى Kovaleski فوضع بذلك حدا نهائيا «لفرض» ياكوب (٦٣).
فعلى مدى الأعوام الطويلة التى قضاها كوفالسكى فى تحضير طبعة جديدة لرسالة إبراهيم بن يعقوب (٦٤) أمكنه أن يفيد كثيرا من مخطوطة لكتاب البكرى كان قد تم الكشف عنها حديثا فى مراكش ؛ وقد وضح أن هذه المخطوطة ليست فى الواقع بذات قيمة كبيرة وأنها لا تخلو من العيوب ، فضلا عن أنه ينقصها القسم من رواية إبراهيم الخاص بالصقالبة. إلا أنها فى مقابل هذا تحمل الاسم الكامل للرحالة على شكل «إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلى الطرطوشى» (٦٥) بحيث أصبح من اليسير إثبات أن الاسمين السابقين إنما هما فى حقيقتهما لشخص واحد. ومما يوكد صحة هذا أنه قد تم فى الأعوام الأخيرة نشر عدد من الآثار الهامة فى محيط الأدب العربى الأندلسى التاريخى منه والجغرافى ، وأنه فى أحد هذه الآثار وهو من تأليف عبد المنعم الحميرى ، أحد رجالات القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، نلتقى بذات الوصف لمدينة لورقه Lorca بأسبانيا الذى ينسبه القزوينى إلى إبراهيم بن أحمد الطرطوشى مع اختلاف جوهرى هو أن