ذات طابع خاص وعام. فقد وضح أنه لا أساس للقول بأن الرحلة من نسج الخيال (٥٣) ، إذ ثبت مثلا صحة المعلومات التى أوردها عن والى سجستان فى ذلك العهد ، وكان العلماء يرفضون الاعتراف بصحتها منذ أيام غريغورييف (٥٤). وبعض التفاصيل المتعلقة بزيارته للصين وجدت توكيدها فى وصف السفارة المتأخرة التى بعث بها شاهرخ (٥٥) إلى تلك البلاد ، كما تم الاعتراف بدقة ملاحظة أبى دلف فى محيط الظواهر الطبيعية والتاريخية. وفيما عدا هذا فيمكن القول الآن وبصفة قاطعة أنه قد ثبت أن روايته لا تمثل يوميات أو وصفا للطريق بل تم تدوينها من الذاكرة وبعد مدة طويلة من حدوث الرحلة على ما يظهر ومع عدم مراعاة التسلسل التاريخى حين الكلام على زيارته للقبائل والأماكن المختلفة ؛ وإلى جانب ما شاهده بعينى رأسه أضاف أبو دلف غير قليل مما سمع ولم يفرّق بين الاثنين (٥٦). والخلاصة أنه لا توجد أدلة قاطعة تثبت أن الوصف لم يعتمد على رحلة واقعية أو أنه لم يكن سوى مجموعة من القصص المنسوبة إلى أبى دلف (١) (٥٧).
هذا وقد وصل الرحالة العرب إلى أوروبا لا من ناحية المشرق وحده بل من المغرب كذلك. ولدينا فى ذلك أثر ممتاز هو مصنف إبراهيم بن يعقوب الذى حفظ لنا جزءا منه الجغرافى والأديب الأندلسى للقرن الحادى عشر البكرى ، وأيضا كوزموغرافى القرن الثالث عشر القزوينى. وإبراهيم بن يعقوب عالم أندمسى يهودى كان يشتغل بتجارة الرقيق وقد جال فى جنوب ألمانيا فى عام ٩٦٥ وقابل الإمبراطور أوتوOtto فى مجد برج Magdeburg (٥٨) وحفظ لنا معلومات واسعة عن إمارات الصقالبة فى أوروبا الوسطى فى ذلك العصر ، ويحدثنا عن أربعة منها هى بلغاريا وبولندا والتشك وإمارة ناكون الأبدريتى Nakon of Obdorites. كما يورد تفاصيل وافية عن بعض المدن الساحلية أو القريبة من الساحل بفرنسا وهولندا وألمانيا ، ومن الطبيعى أن يجتذب مصدر هام فريد فى نوعه كهذا اهتماما خاصا من جانب العلماء الألمان والسلاف الذين ندين لهم قبل غيرهم بأبحاث كثيرة ومتنوعة عن ابراهيم.
وجميع هذه الأبحاث تعتمد على كتاب كونيك وروزن (١٨٧٨ ـ ١٩٠٣) ، الذى بقى إلى الآن أفضل بحث فى هذا الموضوع. ويشمل الجزء الأول (٥٩) من هذا البحث نص وترجمة جميع ما حفظه لنا البكرى من رواية إبراهيم فى كتابه «المسالك والممالك» ، وذلك اعتمادا على المخطوطتين المعروفتين آنذاك (إحداهما للمستشرق الإسبانى غايانغوس Gayangos والأخرى موجودة بالقسطنطينية). وتمثل الأبحاث العديدة التى قام بها جورج ياكوب G.Jacob ابتداء من عام ١٨٨٩ خطوة إلى الأمام فى دراستها ، وكذلك أبحاث فستبرج F.Vestberg التى ترجع إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. والميزة الكبرى لياكوب ، إلى جانب نحليله العميق للمادة ، هى دراسته المنظمة لما حفظه لنا القزوينى عن إبراهيم وإفادته من مخطوطة جديدة للبكرى كشف عنها لاندبرج Landberg.
__________________
(*) ظهرت طبعتان للرسالة الثانية لأبى دلف فى الآونة الأخيرة ، إحداهما لمينورسكى (القاهرة ١٩٥٥) والأخرى لمستشرقين سوفيتين هما بلغاكوف وخالدوف (موسكو ١٩٦٠). (المترجم)