الواقع بل هى جمع لشتات ما قرأه وسمعه من آخرين (٤٣)». وهذه الآراء قد رددها غريغوريف دون تعديل فى المؤتمر الدولى الثالث عشر للمستشرقين الذى عقد ببطرسبورغ فى عام ١٨٧٦ (٤٤) ؛ وقد ظلت تلك هى وجهة النظر السائدة إلى أيامنا هذه. وقد قام ماركفارت بدراسة خط سير أبى دلف إلى عاصمة الصين (١٩٠٣) (٤٥) ؛ ورغما من أن بارتولد قد أماط اللثام فيما يتعلق بإحدى تحقيقات ماركفارت عن مدى الخطورة التى تكمن فى طيات فروضه إلا أنه عاد فاعترف بأن قصة الرحلة «مدلسة» («قصة أسفاره التى لا شك أنها مدلسة») ، واختتم كلامه بقوله «ومادامت قصة السفارة لا يسندها مصدر آخر يوكد صحتها فسيظل محتاجا إلى جواب شاف مدى ارتباط هذه الرحلة ودوافعها بواقع الأحوال التاريخية» (٤٦). وإلى نفس هذه النتائج بالتقريب انتهى أحد البحاثه المتأخرين ممن عالجوا هذا الأثر وهو مينورسكى (١٩٦٧) ، فهو يرى فى الرحلة سلسلة من الوقائع التى لا يربط بينها شىء ، بعضها حقيقى وبعضها من نسيج الخيال (٤٧) ، أما وصف طريق الرحلة فيرى فيه خلطا وتعقيدا شديدين ويعتبره خلوا من أية قيمة عملية (٤٨) بحيث يضحى من الأفضل أن يؤخذ هذا الأثر بوصفه خلاصة للتصورات الجغرافية التى كانت سائدة فى شرقى العالم الإسلامى آنذاك عن الصين وآسيا الوسطى والهند ، يعرضها أبو دلف عرضا يفتقر إلى الدقة والمهارة أضف إلى هذا أن نسبتها إليه تعتمد على مجرد افتراض.
غير أن لهذه المسألة جانبا آخر أشبه ما عليه الأمر مع سلام الترجمان الذى مر ذكره يمنعنا من قبول ذلك الحل قبولا نهائيا : ذلكم أن رحلة أبى دلف إلى الصين واقعة حقيقية لا شك فيها. وتلك القصص الواردة على لسانه فى «الفهرست (٤٩)» ، وهو مصدر معاصر له تقريبا ، تحمل جميع الدلائل على رجحان حدوثها ولم تترك أدنى شك لدى خبير بالموضوع مثل فيران (١٩١٣) (٥٠). هذا ويلاحظ أن روسكاRuska ، الخبير الكبير فى تاريخ العلوم الدقيقة عند العرب ، يلفت النظر إلى أن قصة تسلق أبى دلف لجبل دماوند (دنباوند) (١) التى حفظها لنا القزوينى تمثل شيئا طريفا للغاية وأن اهتمامه بظواهر الطبيعة يضطرنا إلى الوقوف موقف الاطمئنان من رواياته والبعد بها عن مواطن الرّيب الواهية (٥١).
هذا الفارق فى التقدير الإيجابى للكاتب والتقدير السلبى للقصة المرتبطة برحلته من بخارى قد اضطر الباحثين إلى ترك الباب مفتوحا فيما يتعلق بمدى صحة نسبتها إليه لحين الحصول على معلومات جديدة ؛ وهو نفس الرأى الذى نادى به بارتولد وذلك عند تقييمه لمادة الرسالة من وجهة نظر التاريخ. وأول خطوة فى هذا السبيل كانت الدراسة الدقيقة لمسودة مصنف أبى دلف التى حفظتها لنا مخطوطة مشهد فى شكل رسالتين منفصلتين ؛ وهى نفس المخطوطة التى تضم قسما من مصنف ابن الفقيه وأيضا رسالة ابن فضلان. وبالرغم من أن الترجمة والبحث الذى قام به رور زاورRohr ـ Sauer (١٩٣٩) (٥٢) لا يمكن اعتباره بأية حال من الأحوال دراسة شاملة إلا أنه قد تمخض عنه عدد من الاعتبارات الجديدة ،
__________________
(*) جبل دماوندDemavend قرب طهران وفى القاموس «دنباوند والعامة تقول دماوند». (المترجم)