وصف ورصفها أحسن رصف وكساها من كلامه أجزل لفظ وكان إذا تخوّف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جدّ إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة وله كتب حسان منها كتاب البيان والتبيين وهو أشرفها لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم وغرر الأشعار ومستحسن الأخبار وبليغ الخطب ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى به وكتاب الحيوان وكتاب الطفيليين وكتاب البخلاء وسائر كتبه فى نهاية الكمال».
ونحن نعلم جيدا أنه رغما عن هذا الإعجاب فإن المسعودى لم يأخذ مصادره الأدبية على علاتها بل وقف منها موقف الناقد ، وقد أبصرنا من قبل كيف فحص باهتمام شديد رواية الجاحظ عن السند والنيل وكيف كان يقارن المادة المكتوبة بالمعطيات الواقعية فى وصفه للطرق المختلفة ذاكرا فى كثير من الأحايين أين ومتى التقى بالمسافرين ، المشهور منهم والمغمور ، فمن أولئك يذكر صاحب وصف طريق الهند والصين أبا زيد السيرافى. ومما يكفر عن افتقار مصنفاته إلى التنظيم والتبويب أنه لا يتبع اتباعا أعمى المنهج التأليفى السائد فى الجغرافيا العلمية آنذاك ، بل يفرد مجالا واسعا للمعلومات الجغرافية المأخوذة مباشرة من الرحالين والتجار ، ولم يكن من النادر أن تتجه عواطفه نحو الأخيرين. وهو يلفت النظر إلى التباين بين النظرية الموجودة فى الكتب والمشاهدات الواقعية فيها يتعلق بامتداد المحيط الهندى (٢٦). أما الجغرافيا الفلكية فإنه لم يشعر نحوها بميل كبير ، وقد مر بنا فيما سبق رأيه الغريب القائل بأن جميع المدن الكبرى لإقليم ما تقع على خط عرض واحد (٢٧).
ولم يكن بمقدور مصنفات المسعودى أن تظفر بانتشار واسع بسبب ضخامة حجمها ، غير أن الصغرى من بينها نالت صيتا يعادل الصيت الذى ناله اسمه ومنهجه فى التأليف. ولعل هذا يفسر لنا لماذا نسبت إليه أكثر من مرة مصنفات منحولة كان أكبرها شهرة «كتاب أخبار الزمان وعجائب البلدان» أو «مختصر العجائب والغرائب» المعروف فى عدد كبير من المخطوطات خاصة بالمكتبة الأهلية بباريس Bibliotheque Nationale ، وهى التى قام بفحصها كارادى فو (٢٨). وينقسم الكتاب إلى قسمين غير متساويين ، أولهما وهو الأصغر يبحث فى خلق العالم وعجائب الأمم القديمة ، وهنا يفرد مكانا خاصا للأساطير المتعلقة ببحر الهند والتى ترتبط بعض الارتباط بكتاب «عجائب الهند» ؛ أما القسم الثانى والأكبر فيعالج التاريخ الأسطورى القديم لمصر ؛ وهو لا يعتمد فيه على المصادر اليونانية أو الروايات الهيروغليفية. وفى بعض المخطوطات ينسب هذا الكتاب إلى المسعودى (٢٩) ولكن يستحيل عقلا أن يكون من تأليفه سواء من ناحية الموضوع أو الشكل ؛ أضف إلى هذا أن المسعودى لا يذكره فى تبت مؤلفاته وأن تلك الفصول من «مروج الذهب» التى يرد فيها الكلام عن مصر لا تذكّر فى شىء بكتاب «مختصر العجائب» (٣٠) سواء من ناحية العرض أو الترتيب. ويزيد فى تعقيد المسألة المحيطة بشخصية مؤلف الكتاب عامل آخر هو وجود مقتطفات منه فى خطط المقريزى منسوبة إلى ابراهيم بن وصيف شاه (٣١) ، وهو مؤلف معروف عاش فى بداية القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) واشتهر بتاريخ له عن مصر يحمل شطره