ولا تدافع بين الآيتين رغم ما قيل ، فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الإثخان ، وهذه تأمر بالأسر بعد الإثخان ، ولقد نقم بعض الطامعين الطامحين رسول الهدى لماذا لا يكون له اسرى ننتفع بها قبل أن يثخن في الأرض ، فتقل الأسرى وبعد ما نخسر من قتلانا بغية الإثخان ، فجاء الجواب الناقم الحاسم : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ ..) فحروب الأنبياء لا تعني غنائم الأموال والنفوس وتفتّح البلاد ، وإنما تفتح القلوب او دفع الأخطار عن ساحة الإسلام ، وإنما شوكة الإيمان ونهكة الكفر ، لا استغلالها لتجارة الغنائم والأسرى ، ولمن يخسرون المعارك لصالح الكفار ، الذين يهاجمونهم قبل انتهاك قواهم فيقتلونهم ويرجعون أسراهم ، فهذه انتفاضة خاسرة تستوجب العذاب العظيم في الدنيا وفي الآخرة ، وانما هي فقط : «أن يثخن في الأرض» : (فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) ثم ماذا بعد الإثخان والوثاق»؟ :
(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ويا لها من جملة جميلة فريدة في القرآن تحمل أجمل المواجهات لأخطر الأعداء وبعد إثخانهم ، عند القدرة والسيطرة الحاسمة لجنود الإسلام عليهم ، فشدّ وثاقهم بأسر ، أفبعد هذا وذاك (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) وبتسريحهم وتحريرهم دون مقابل ، ولا بأسرى المسلمين ، الذينهم في أيديهم وطبعا معذبون؟ اجل! ولكي يستفيقوا من غفوتهم وغفلتهم لو كان لهم ضمير ، فيهتدوا الى هدى الإسلام ، التي هي البغية الاولى والاخيرة ، وإذا لا يستحقون هكذا من ـ وعند ما لا يؤمل خيرهم ـ فالشق الأخير : (وَإِمَّا فِداءً) : ايّ فداء : بتحرير مقابل من أسرى المسلمين إن كانوا (١) ، أم أخذ مال ، ام ولا اقل : أخذ ميثاق وثيق ألا يرجعوا للحرب ، او يتجسسوا لصالح كتلة الفساد ، او
__________________
(١) الدر المنثور ٦ : ٤٦ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عمران بن حصين ان النبي (ص) فادى رجلين من أصحابه برجلين من المشركين أسروا.