ثم وهنالك ملكوت هي حقيقة الشيء وما به الشيء شيء ، فمن بيده الملك قد لا يملك ، ومن بيده الملك قد يضعف أو يزول ملكه ، ولكن الذي بيده الملكوت فبيده ناصية كل شيء إيجادا وإعداما وما بينهما تحويرا وتغييرا ، لا منعة عن إرادته فيه ولا مهلة بعدها له!
وعلّ الملكوت هي حقيقة الملك والملك مبالغة فيهما حقهما ، فليست إذا إلا لله ، لا يشاركه فيها سواه اللهم إلّا علما إذا علّم الله.
فهنا ملكوت يجوز النظر إليها وقد أمرنا به : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ...) (٧ : ١٨٥) وهذه ملكوت تعرف بالنظر وهي افتقار الكائنات ذاتيا إلى من سواها.
وهناك ملكوت يريها الله من يشاء : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٦ : ٧٥) وعلّها إرائة لافتقار أعمق مما يحصل بالنظر ، وقطعا ليست هي العلم المحيط بذوات الكائنات فإنه يساوق القدرة الخلاقة لها و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ)؟
وهنالك ملكوت هي ـ فقط ـ بيده تعالى علما وقدرة : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) (٣٣ : ٨٨)؟ (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) عن أن يعيى بخلق أمثالنا أو يتخذ في شيء لنفسه شريكا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كحتمية تقضيها العدالة والحكمة الإلهية!
وإنها ايقاعة ختامية قاحلة لهذه الجولة الهائلة في السورة كلها ، تضم الأصول الثلاثة بإجمال لطيف!