هذه الكلمة البشرى ، سائلة ربها (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ..) فطويت الحوار هنا طيا وهي بانتظار كيف تتحقق البشرى ، (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) لا للبشرى إذ تقدمت بالملائكة وانما لتحقيق البشرى : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ولكنها ذعرت إذ فوجئت بما لم تحسب له حسابا أن البشارة تتحقق ببشر سوي ، فحق لها ان تحتار مترددة هل إنه الذي يحقق البشرى ، وما طمأنت له حتى (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ..) بما سبقت لك فيه البشرى ، فاطمأنت لحدّمّا ، ولكنها بعد متحيرة ولكي تطمئن (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ..) فلما سمعت نفس الصيغة الماضية من الملائكة في بشراها (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ...) انتهت الحوار وأصبحت كأنها في قرار! مستسلمة لتحقيق البشرى :
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا)(٢٢).
فقد حملت الغلام الزكي الموهوب بنفخ رباني وإلقاء : نفخ «روحنا» وإلقاء «كلمته». هنا «فحملته» وفي اخرى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (٤ : ١٧١) وفي ثالثة (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٦٦ : ١٢) فالحامل للغلام الزكي الموهوب هو «روحنا» والمحمول هنا هو الغلام ، ثم المنفوخ هو «من روحنا» والملقى (كَلِمَتُهُ .. وَرُوحٌ مِنْهُ) والحاملة هي مريم ، وهل هنا فرق بين الغلام الزكي وروح منه ومن روحنا وكلمته الملقاة الى مريم؟ تعبيرات اربع في سائر القرآن عن تكوين المسيح (عليه السلام).
ولأن ضمير الغائب في «حملته» راجع الى (غُلاماً زَكِيًّا) فليكن هو المحمول بروحه وجسمه ، وعلّ جسمه هو الكلمة الملقاة وروحه هو المنفوح ، فتحققت إذا ازدواجية ذلك الحمل المبارك ، وفي قرن «كلمته» ب «روح منه» تلميح بذلك القرن في حملها ، وكلا النفخ والإلقاء من فعل الله وليس «روحنا» إلا وسيطا في تحميل هذه الهبة الربانية وعلّها دون نفخ منه ولا إلقاء!