هم كانوا واثقين لا يفرقون بين إلقاءهم أولا وإلقاءه ، ولو أنه تقدم ، ما كان هناك ظرف لما تقدمه أن يلقف ما يأفكون ، وهذه تكتيكة لصالح الحوار أن يتطلب صاحب الحق أن يتقدم محاورة بما عنده على البساط حتى يسهل له القضاء عليه ، تهديما بكل صرحه ، وفصما لكل طرحه ، وحسما له عن بكرته ، فلذلك استهان بتحدّيهم بكلمة واحدة تبدو فيها قلة مبالاته بهم : (قالَ أَلْقُوا) ما عندكم من السحر (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) دون عقولهم وقلوبهم العارفة أنها صورة دون حقيقة وسيرة (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) طلبا لرهبتهم وهم لا يرهبون إلّا ظاهريا (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) ما أعظمه بين مختلف ألوان السحر لحد (قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) (٢٦ : ٤٤) فما يصنع ساحر واحد مهما كان عظيما أمام سحر هؤلاء العظماء من سحرة البلاد.؟!
فأهم فاعليات السحر أن يسحر أعين الناس ويسترهبهم في المعاينة دون أي واقع وراء سحر الأعين ، وذلك من الفوارق العظيمة بين السحر والآية الربانية ، ولو استطاع ساحر أن يقلب واقعا إلى آخر بسحرة لكانت السحرة المهرة الفرعونية تقلب التراب ذهبا دون طلب لأجر من فرعون ، أم ويقلبوا سلطان فرعون إلى سلطانهم فيتركوا عبوديته إلى حريتهم أنفسهم ، وقد أتينا بقول فصل حول الفوارق بين السحر والآية المعجزة في البقرة فراجع.
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)(١١٧).
«ألق عصاك» إلغاء لما ألقوا من حبالهم وعصيهم التي سحرت أعين الناس (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) : أكلا سريعا حاذقا خارقا «ما يأفكون» دونما رجع أو رجيع ، مما يؤكد أنها آية ربانية رسولية بعيدة عن حقل السحر ، حيث السحر يخيّل ـ فقط ـ للأبصار ، والآية يحقق الحق للبصائر.
ذلك ، وحين تتغلب عصى موسى ـ وهي أدنى من آية القرآن بكثير ـ على ذلك السحر العظيم ـ وهو أعظم من أي سحر على الإطلاق ـ أفلا