والقمر والشمس ؛ لأنها تغيب وتختفي ، وشأن الإله ألا يغيب ولا يستتر ، ولا يتخلى عن إشرافه لملكوته ، وقد تنازل مع خصمه بهذا الأسلوب على سبيل الافتراض ، ثم نقض وجهة نظر الخصم وكان في كل ذلك ـ كما أوضحت ـ مناظرا لا ناظرا ، فعقيدته مستقرة في قلبه بالفطرة والإلهام والإرشاد الإلهي والعقل والحس.
وأما قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) فمعناه : لئن لم يثبتني على الهداية ، وقد كان مهتديا. وفي التنزيل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦] أي ثبتنا على الهداية.
وتدرج إبراهيم من اختبار نماذج ثلاثة لألوهية الكواكب إلى إثبات ألوهية الله الحق وربوبيته ، بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عزوجل وحده. وذكر الوجه ؛ لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. وكان تدرجه من التعريض بجهل قومه وبطلان الوثنية ، إلى سلخ محبته عن الآفلين ، إلى الإنذار بالضلال والحيرة ، إلى التصريح بالبراءة من الشرك ومن المشركين ، إلى إعلان عقيدته بعد هدم أساس الشرك.
قال الرازي : وليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة ، لكن الثنوية يثبتون إلهين : أحدهما ـ حكيم يفعل الخير ، والثاني ـ سفيه يفعل الشر. وأما الاشتغال بعبادة غير الله فهناك كثرة : منهم عبدة الكواكب ، ومنهم قوم غلاة ينكرون الإله الصانع ، وهم الدهرية الخالصة والنصارى يعبدون غير الله ، إذ يعبدون المسيح ، ومنهم عبدة الأصنام (١).
ولا دين أقدم من دين عبادة الأصنام ؛ لأن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا
__________________
(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٣٥