ذلك لا يفوّت أصحابه شيئا ، ولا ينقص لهم قدر ، فمال إليه ، فأنزل الله الآية : (وَلا تَطْرُدِ ..) فنهاه عما همّ به من الطّرد ، لا أنه أوقع الطّرد. وقد روينا في سبب النزول قصّتهم ، ويحسن ذكر رواية أخرى هي ما رواه مسلم في صحيحة عن سعد بن أبي وقاص قال : كنّا مع النّبي صلىاللهعليهوسلم ستّة نفر ، فقال المشركون للنّبي صلىاللهعليهوسلم : اطرد هؤلاء عنك ، لا يجترءون علينا ؛ قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما ، فوقع في نفس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
وهذا دليل آخر على كون القرآن من عند الله تعالى ، إذا يستحيل عقلا أن يهمّ النّبيّ بشيء ، ثم ينهى نفسه عنه ، لو لم يكن النّهي عن الفعل من عند ربّه.
٨ ـ في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) إشارة إلى تبدل ميزان القوى ومراكز الناس ؛ فإن حالات التّفوّق والنّعم لن تدوم للكفار ، وأحوال الضعف التي مرّ بها المؤمنون وصبروا عليها لا بدّ أن تتبدّل ، وسيصبح الأقوياء أذلّة ، والضّعفاء أعزّة بالإسلام ، ويعلو الحقّ ، وتتأيّد دولة الله في الأرض ، ويصبح أتباعها هم الأئمة الوارثين ، قال تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٧] ، وقال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص ٢٨ / ٥].
٩ ـ وفي الآية : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا) أيضا إيماء إلى أنّ ترك المشركين للإيمان لم يكن إلا عنادا وجحودا ناشئا عن الاستعلاء والاستكبار ، لا عن حجّة وبرهان. وفيها كذلك أن كلّا من فريقي المؤمنين والكافرين مبتلى بصاحبه ، فالكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على سبقهم في الإسلام