الطيبات ، أو : ولا تعتدوا بتحريم الطيبات ، فكان الاعتداء شاملا أمرين : الاعتداء في الشيء نفسه بالإسراف فيه ، كقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف ٧ / ٣١] والاعتداء بتجاوزه إلى غيره من الخبائث.
وسبب النهي عما ذكر أن الله يبغض المعتدين ويعاقب المتجاوزين حدود شرعه ، وتحريم حلاله ولو بقصد عبادته ، سواء كان التحريم بيمين أو نذر أو بغيرهما.
وفي هذا انسجام مع مبدأ وسطية الإسلام واعتداله ، فلا إسراف ولا تقتير ، ولا امتناع عن المادية ولذائذ الحياة المشروعة ، ولا رغبة في الرهبانية والزهد المؤدي إلى الكبت وتعذيب النفس وإضعاف الجسد وحرمانه ، كما لا إغراق في الشهوات وانتهاب اللذات فوق القدر المعتاد المتوسط.
وبعد أن نهى تعالى عن منع النفس من طيبات الحياة ، أمر بنحو إيجابي على سبيل الإباحة بالأكل مما أحلّ الله لكم وطاب ، مما رزقكم الله من الحلال ، لا من المحرّمات بنفسها كالميتة والدّم المسفوح ولحم الخنزير ، ولا من الحرام بطريق الكسب كالرّبا والقمار والسرقة والسّحت وغير ذلك من أكل أموال الناس بالباطل.
وهذا يدلّ على أنّ الرّزق يتناول الحلال والحرام ، ووجود الحرام للاختبار ومعرفة مدى مجاهدة النفس بحملها على ما أحلّه الله ، ومنعها مما حرّمه الله.
ثم وضع الله ظابطا ليس في العبادة وحدها ، وإنما في الأمور المعاشية المعتادة أيضا ، وهو الأمر بتقوى الله ، والاعتصام بحدود الله ، أي فاتّقوا الله الذي آمنتم به في كل شؤون المعيشة والحياة من أكل وشرب ولباس ونساء وغيرها ، ولا تتجاوزوا المشروع في تحليل ولا تحريم.