وصل فيه ذلك الاتّجاه العقلي المتطرّف إلى قصارى مداه ، ولتوضيح ذلك لا بدّ من إعطاء فكرةٍ عن القول بالتصويب.
بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقاً للاتّجاه العقلي المتطرّف كان من الطبيعي أن تختلف الأحكام التي يتوصّلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعاً لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمّون بها. فهذا يرجِّح في رأيه الحرمة ؛ لأنّ الفعل فيه ضرر. وذاك يرجّح الإباحة ؛ لأنّ في ذلك توسعة على العباد ، وهكذا.
ومن هنا نشأ السؤال التالي : ما هو مدى حظّ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعاً مصيبين ما دام كلّ واحدٍ منهم قد عبّر عن اجتهاده الشخصي ، أو أنّ المصيب واحد فقط والباقون مخطئون؟
وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأنّهم جميعاً مصيبون ؛ لأنّ الله ليس له حكم ثابت عامّ في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفّر فيها النصّ ، وإنّما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدّي إليه رأيه واستحسانه ، وهذا هو القول بالتصويب.
وفي هذا الضوء نتبيَّن بوضوحٍ ما ذكرناه آنفاً من أنّ القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحوّلها إلى اتّهامٍ مباشرٍ للشريعة بالنقص وعدم الشمول ، الأمر الذي سوّغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ في مجالات الاجتهاد ويصوّبوا المجتهدين المختلفين جميعاً.
وهكذا نعرف أنّ فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتّجاه العقلي