فنبدأ من ذلك ما ذكره سيبويه في هذا الباب ونشفعه بسائر المبنيات ، فأول ذلك" حيث" اعلم أن حيث فيها أربع لغات ، يقال حيث وحيث ، وحوث ، وحوث ، وهي مبنية في جميع وجوهها والذي أوجب بناءها علتان :
إحداهما أنها تقع على الجهات الست ، وهي : خلف ، وقدام ، ويمنة ، ويسرة ، وفوق ، وأسفل ، وتقع على كل مكان. وكل واحد من هذه الجهات تقع مضافة إلى ما بعدها ، وأبهمت" حيث" فوقعت عليها كلها ولم يخص مكانها دون مكان ، فشبهوها لإبهامها في الأمكنة" بإذ" المبهمة في الزمان الماضي كله ، فلما كانت" إذ" مضافة إلى جملة موضحة لها ، أوضحت" حيث" بالجملة التي أوضح بها" إذ" من ابتداء وخبر وفعل وفاعل ، فلما استحقت الإضافة ومنعتها ، صارت بمنزلة قبل وبعد ، إذ حذف المضافتان إليه وبنيت كما بنيتا.
والعلة الثانية : أنه ليس شيء من غير الأزمنة ، وما في معناها يضاف إلى الجمل إلا" حيث" ، فلما خالفت أخواتها" حيث" بأنها قد أضيفت إلى الجملة بنيت لمخالفتها أخواتها ودخولها في غير بابها ، أعني في مشابهة إذ من الإضافة إلى الجمل ، واستحقت أن تبنى على السكون ؛ لأن المبني على حركة من الأسماء هو ما كانت له حالة في التمكن ، مثل : قبل ، وبعد ، وأول ، ومن حل ، ويا زيد ، وكان حكم آخره أن يكسر لالتقاء الساكنين.
وسنبين لما وجب الكسر في التقاء الساكنين دون غيره إذا انتهينا إلى موضعه إن شاء الله ـ فلم يكسر وفتح استثقالا للكسرة مع الباء. فإن قال قائل : فقد قالوا : جير وويب ووهيت فكسروهن ، فإن الجواب في ذلك أن الحرف على مقدار كثرة استعماله تختار خفته وتؤثر سهولته ، فلما كثر استعمال حيث مع العلة التي ذكرنا من اجتماع الكسر والياء آثروا الفتحة لذلك ، فأما من ضم" حيث" فإنما ضمها لما كانت مستحقة للإضافة ومنعتها كما فعل بقبل وبعد ، ونحن نبين علة الضم في قبل وبعد إذا انتهينا إليه إلا أن الضم في حيث لالتقاء الساكنين ، وفي قبل وبعد للبناء في أول أمره.
وقد حكى الكسائي عن بعض العرب أنهم يكسرون" حيث" فيقولون (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)(١) فيضيفونها إلى جملة ويكسرونها مع ذلك ، والأمر في هذه اللغة عندي أنهم
__________________
(١) سورة الأعراف ، آية ١٦. سورة القلم ، آية ٤٤.