فإذا هي على حالة واحدة عند الاهانة والاكرام ، فلمّا رأيت ذلك أتيت الحكماء فسألتهم عنها فلم أجد عندهم علما بها ، ثمّ علمت أنَّ الملك منتهى العلم ومأوى الحلم فأتيتك خائفا على نفسي ولم يكن لي أن أسألك عن شيء حتّى تبدأني به واحب أن تخبرني أيّها الملك أجمجمة ملك هي أم جمجمة مسكين فإنها لمّا أعياني أمرها تفكرت في أمرها وفي عينها الّتي كانت لا يملأوها شيء حتّى لو قدرت على ما دون السّماء من شيء تطلعت إلى أن تتناول ما فوق السّماء ، فذهبت أنظر ما الّذي يسدها ويملأها فإذا وزن درهم من تراب قد سدها وملأها ، ونظرت إلى فيها (١) الّذي لم يكن يملأه شيء فملاءته قبضة من تراب ، فإنَّ أخبرتني أيّها الملك أنّها جمجمة مسكين احتججت عليك بأني قد وجدتها وسط قبور الملوك ، ثمّ أجمع جماجم ملوك وجماجم مساكين فإن كان لجماجمكم عليها فضل ، فهو كما قلت ، وإن أخبرتني بأنها من جماجم الملوك أنبأتك أنَّ ذلك الملك الّذي كانت هذه جمجمته قد كان من بهاء الملك وجماله وعزته في مثل ما أنت فيه اليوم فحاشاك أيّها الملك أن تصير إلى حال هذه الجمجمة فتوطأ بالاقدام وتخلط بالتراب ويأكلك الدود وتصبح بعد الكثرة قليلا وبعد العزة ذليلا ، وتسعك حفرة طولها أدنى من أربعة أذرع ، ويورث ملكك وينقطع ذكرك ويفسد صنايعك ويهان من أكرمت ويكرم من أهنت وتستبشر أعداءك ويضل أعوانك ويحول التراب دونك ، فإنَّ دعوناك لم تسمع ، وإن أكرمناك لم تقبل ، وإن أهناك لم تغضب ، فيصير بنوك يتامى ونساؤك أيامى (٢) وأهلك يوشك أن يستبدلن أزواجا غيرك.
فلما سمع الملك ذلك فزع قلبه وانسكبت عيناه يبكى ويعول ويدعو بالويل ، فلمّا رأي الرَّجل ذلك علم أنَّ قوله قد استمكن من الملك ، وقوله قد أنجع فيه زاده ذلك جرأة عليه وتكريرا لمّا قال ، فقال له الملك : جزاك الله عني خيراً وجزا من حولي من العظماء شرا ، لعمري لقد علمت ، ما أردت بمقالتك هذه وقد أبصرت
__________________
(١) يعنى فمها.
(٢) أي لا زوج لهن.