انتظاراً لأمره إيّاهم بقتله ، والملك في ذلك مالك لغضبه ، وقد كانت الملوك في ذلك الزَّمان على جبروتهم وكفرهم ذوي أناة وتؤدة ، استصلاحاً للرَّعيّة على عمارة أرضهم ليكون ذلك أعون للجلب وأدَّى للخراج ، فلم يزل الملك ساكتاً على ذلك حتّى قام من عنده ، فلفَّ تلك الجمجمة ثمّ فعل ذلك في اليوم الثاني والثالث ، فلمّا رأى أنَّ الملك لا يسأله عن تلك الجمجمة ، ولا يستنطقه عن شيء من شأنها أدخل مع تلك الجمجمة ميزاناً وقليلاً من تراب فلمّا صنع بالجمجمة ما كان يصنع أخذ الميزان وجعل في إحدى كفّتيه درهماً وفي الاُخرى بوزنه تراباً ثمّ جعل ذلك التراب في عين تلك الجمجمة ثمّ أخذ قبضة من التراب فوضعها في موضع الفم من تلك الجمجمة.
فلمّا رأى الملك ما صنع قلَّ صبره وبلغ مجهوده ، فقال لذلك الرَّجل : قد علمت أنّك إنّما اجترأت على ما صنعت لمكانك منّي وإدلالك عليَّ ، وفضل منزلتك عندي ، ولعلّك تريد بما صنعت أمراً ، فخرَّ الرَّجل للملك ساجداً وقبّل قدميه وقال : أيّها الملك أقبل عليَّ بعقلك كلّه فإنَّ مثل الكلمة مثل السّهم إذا رمي به في أرض لينة ثبت فيها وإذا رمي به في الصّفا لم يثبت ، ومثل الكلمة كمثل المطر إذا أصاب أرضاً طيّبة مزروعة نبت فيها ، وإذا أصاب السبّاخ لم ينبت ، وإنَّ أهواء النّاس متفرِّقة ، والعقل والهوى يصطرعان في القلب ، فإن غلب هوى العقل عمل الرَّجل بالطيش والسفه ، وإن كان الهوى هو المغلوب لم يوجد في أمر الرَّجل سقطة ، فإنّي لم أزل منذ كنت غلاماً احبُّ العلم وأرغب فيه وأوثره على الأُمور كلّها ، فلم أدع علماً إلّا بلغت منه أفضل مبلغ ، فبينا أنا ذات يوم أطوف بين القبور إذ قد بصرت بهذه الجمجمة بارزة من قبور الملوك ، فغاظني موقعها وفراقها جسدها غضباً للملوك ، فضممتها إليَّ وحملتها إلى منزلي فألبستها الدِّيباج ونضحتها بماء الورد والطيّب ووضعتها على الفرش وقلت : إن كانت من جماجم الملوك فسيؤثر فيها إكرامي إيّاها وترجع إلي جمالها وبهائها ، وإن كانت من جماجم المساكين فإنَّ الكرامة لا تزيدها شيئاً ففعلت ذلك بها أياما فلم أستنكر من هيئتها شيئاً ، فلمّا رأيت ذلك دعوت عبداً هو أهون عبدي عندي فأهانها