يعط غيرهم ، وذلك لمّا يريد من بلوغ رسالته ومواقع حججه ، وكانت الرُّسل إذا جاءت وأظهرت دعوتها أجابهم من النّاس أيضاً من لم يكن أجاب الحكماء وذلك لمّا جعل الله عزَّ وجلَّ على دعوتهم من الضّياء والبرهان.
قال ابن الملك : أفرأيت ما يأتي به الرُّسل والأنبياء إذ زعمت أنَّه ليس بكلام النّاس ، وكلام الله عزَّ وجلَّ هو كلام وكلام ملائكته كلام ، قال الحكيم : أما رأيت النّاس لمّا أرادوا أن يفهموا بعض الدّوابِّ والطّير ما يريدون من تقدُّمها وتأخّرها وإقبالها وإدبارها لم يجدوا الدّوابّ والطير تحمل كلامهم الّذي هو كلامهم ، فوضعوا من النقر والصفير والزجر ما يبلغوا به حاجتهم وما عرفوا أنّها تطيق حمله ، وكذلك العباد يعجزوا أن يعلموا كلام الله عزَّ وجلَّ وكلام ملائكته على كنهه وكماله ولطفه وصفته فصار ما تراجع النّاس بينهم من الاصوات الّتي سمعوا بها الحكمة شبيها بما وضع النّاس للدواب ، والطير ولم يمنع ذلك الصوت مكان الحكمة المخبرة في تلك الاصوات من أن تكون الحكمة واضحة بينهم ، قوية منيرة شريفة عظيمة ، ولم يمنعها من وقوع معانيها على مواقعها وبلوغ ما احتج به الله عزَّ وجلَّ على العباد فيها وكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً ، وكانت الحكمة للصّوت نفساً وروحاً ، ولا طاقة للنّاس أن ينفذوا غور كلام الحكمة ، ولا يحيطوا به بعقولهم ، فمن قبل ذلك تفاضلت العلماء في علمهم ، فلا يزال عالم يأخذ علمه من عالم حتّى يرجع العلم إلى الله عزَّ وجلَّ الّذي جاء من عنده ، وكذلك العلماء قد يصيبون من الحكمة والعلم ما ينجيهم من الجهل ، ولكن لكلِّ ذي فضل فضله ، كما أنَّ النّاس ينالون من ضوء الشمس ما ينتفعون به في معائشهم وأبدانهم ولا يقدرون أن ينفذوها بأبصارهم فهي كالعين الغزيرة ، الظاهر مجراها ، المكنون عنصرها ، فالناس قد يجيبون بما ظهر لهم من مائها ، ولا يدركون غورها وهي كالنجوم الزّاهرة الّتي يهتدى بها النّاس ، ولا يعلمون مساقطها ، فالحكمة أشرف وأرفع وأعظم ممّا وصفناها به كلّه ، هي مفتاح باب كلِّ خير يرتجى ، والنجاة من كلِّ شر يتّقى ، وهي شراب الحياة الّتي من شرب منه لم يمت أبداً ، والشفاء للسقم الّذي من استشفى به لم يسقم أبداً ، والطريق المستقيم الّذي من سلكه