فلمّا مثل لي أسرعت إلى تلقّيه فأكببت عليه ألثم كلَّ جارحة منه ، فقال لي : مرحباً بك يا أبا إسحاق لقد كانت الأيّام تعدني وشك لقائك والمعاتب بيني وبينك على تشاحط الدّار وتراخى المزار (١) ، تتخيّل لي صورتك حتّى كانا لم نخل طرفة عين من طيب المحادثة ، وخيال المشاهدة ، وأنا أحمد الله ربي ولي الحمد على ما قيّض من التلاقي ورفّه من وكربة التنازع (٢) والاستشراف عن أحوالها متقدّمها ومتأخرها.
فقلت : بأبي أنت وأمّي ما زلت أفحص عن أمرك بلداً فبلداً منذ استأثر الله بسيّدي أبي محمّد عليهالسلام فاستغلق عليّ ذلك حتّى من الله عليّ بمن أرشدني إليك ودلّني عليك ، والشكر لله على ما أوزعني (٣) فيك من كريم اليد والطولَّ ، ثمّ نسب نفسه وأخاه موسى (٤) واعتزل بي ناحية ، ثمّ قال : إنَّ أبي عليهالسلام عهد إلي أن لا أوطن من الأرض إلّا أخفاها وأقصاها إسرارا لامري ، وتحصينا لمحلي لمكائد أهل الضلال والمردة من أحداث الامم الضوالِّ ، فنبذني إلى عالية الرَّمال ، وجبت صرائم الأرض (٥) ينظرني الغاية الّتي عندها يحل الامر وينجلي الهلع (٦).
__________________
القنى. والوفرة : الشعرة إلى شحمة الاذن. والسحماء : السوداء. وشعر سبط أي مترسل غير جعد ، والسمت : هيئة أهل الخير (الصحاح).
(١) الوشك ـ بالفتح والضم ـ : السرعة. والمعاتب المراضي من قولهم « استعتبته فأعتبنى أي استرضيته فأرضاني وتشاحط الدّار : تباعدها.
(٢) التقييض : التيسير والتسهيل ، والتنازع : التساوق من قولهم نازعت النفس إلى كذا أي اشتاقت. وفي بعض النسخ « التنارح » أي التباعد.
(٣) أي الهمنى.
(٤) هذا خلاف ما أجمعت عليه الشيعة الاماميّة من أنَّه ليس لابي محمّد ولد إلّا القائم عليه وعلى آبائه السلام. فتأمل.
(٥) العالية » : كلّ ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها إلى تهامة العالية ، وما كان دون ذلك السافلة. (المراصد). و « جبت صرائم الأرض » أي قطعت ودرت ما انصرم من معظم الرمل يعنى الاراضي المحصود زرعها. وفي بعض النسخ « خبت » بالخاء المعجمة ـ وهو المطمئن من الأرض فيه رمل.
(٦) الهلع : الجزع.