جيش قوي برا ونهرا في آن (١). وحاول المختار المستحيل مع من تبقى من الرجال ـ وكانوا بضعة آلاف ـ لقطع طريق الكوفة على مصعب ، فتحصن في السيلحين (٢) (هل كانت تقع في الجنوب الغربي أم في الجنوب الشرقي؟) «وسكر الفرات على مجتمع الأنهار فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار وبقيت سفن البصرة في الطين» (٣). فتأخر وقت الزحف : ثمّ بدأ القتال في حروراء (٤) وكان مركزا متقدما للكوفة على طريق البصرة ، حيث أقام الخوارج الأوائل بالذات. وكانت محاولة أخيرة. لكن جيش المهلب بن أبي صفرة القوي حمل على جيش المختار فدحره استمر المختار يدافع عن مدخل الكوفة بحفنة أخيرة من أصحابه دفاعا مستميتا ، عند رأس سكة شبث (٥) ، ثم تحصن في «قصره» أي قصر الإمارة ، واتخذ كل الاحتياطات لمجابهة الحصار. هذه الأحداث يرويها الطبري عن أبي مخنف ويرويها البلاذري عن عدّة مصادر أهمها أبو مخنف ، وهي مفيدة لأكثر من سبب. وهذه اللحظة بالذات من ثورة المختار تعلمنا عن المحيط المباشر للكوفة وتطرح مشكلة الماء ومشكلة اتصال الكوفة بالعالم الخارجي وكيف يتم ولوج المدينة في اتجاه المركز بتقدم بطيء.
قضية الماء :
الواقع أنه ينبغي التساؤل عما هناك من علاقات بين الكوفة والماء. لقد فرّ العرب الأوائل من عالم المياه ، إن أمكن القول ، من عالم المدائن المائي ، وأنشأوا مدينتهم على اليابسة ، على الأرض الصحراوية تقريبا. كان ذلك على ضفة الفرات ، لكن قبل عبوره ثم يبدأ بعد ذلك عالم الريف ، وهو السواد الذي كانت تخطّه قنوات الري التي تربط بين الفرات ودجلة. يذكرنا التصور الشائع المترتب عن كلمات مثل الكوفة والحيرة والكناسة والبادية القريبة جدا ، بالغبار ورائحة الصحراء. هذه حقيقة لأن الصحراء جاثمة عند الباب أمام كل عين بصيرة. وهي موجودة بالداخل أيضا لأن السكان ـ يا لها من سخرية قصوى ـ هيأوا داخل الكوفة صحارى صغرى. إنّما كانت هذه الصورة حقيقية إلى حد ما فقط لأن الكوفة فعلا نقطة اتصال بين عالمين ، وقد أثبت الماء وجوده في البداية بفضل الفرات ، وبكل ما يتبع الفرات كالسبخة التي أشرنا إليها مرارا ، والقصب الذي أضفى على الكوفة
__________________
(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٩.
(٢) المرجع نفسه ، ص ٩٥ ؛ صالح العلي حدد موقعها في الجنوب الغربي قرب طريق القادسية وحدده ماسينيون إلى الجنوب الشرقي قرب الفرات. ويؤيد السياق وجود الموقع إلى الجنوب الشرقي.
(٣) المرجع نفسه ، ص ٩٩. استعملت كلمات مثل سكر وسكر وهي مصطلحات مائية مشتقة من اللغة الأكاديّة.
(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ٢٥٨.
(٥) الطبري ، ج ٦ ، ص ١٠١.