الفترة ، نستدل جيدا على أن هناك استقطابا شديدا للقبائل ، وإحياء للروح القبلية وما يتصل بها من روابط عميقة بين السكن ومكان التجمع (١) ، خلافا لما وقع خلال ثورة المختار نفسه. ففي هذه الصورة الأخيرة ، توزّعت الحشود بترتيب من الحكم الذي ما انفك قائما موجودا ، أما في الصورة الأولى ، فقد صدرت المبادرة عن القبائل. ولذا فهناك احتمالات قوية أنه كان لمضر مواقع يمكن تحديدها الآن في غرب الكوفة ، غير بعيد عن الكناسة ، وأن تميما انتقلوا فعلا من الشرق إلى الغرب. كما أكد ذلك ماسينيون وكما عرفناه من المصادر اللاحقة. لا شك أن هذا الانتقال لم يكن تاما شاملا ، ولا سيما بالنسبة لتميم ، حيث أن مواليهم من الحمراء بقوا في الشرق (٢) ، كما يتأكد ذلك (٣) من وجود عشائر تميمية في منطقة ينبغي تحديدها إلى الشرق دون أي شك ممكن. وهنا أيضا تنبغي العودة إلى فكرة تفريق الجموع القبلية حيث بقيت فلول منها بالموقع الأصلي في حين رحل أكثر أفراد القبيلة.
كانت الأمور أكثر بساطة بالنسبة لليمن خاصة همدان وكندة ومذحج ، إذ بدت مستقرة من البداية. والملاحظ أن خثعم كانت حاضرة بصورة مهمة وقد حطت بجبانة بشر. واعتقادنا أن الأزد استقروا في مكانين أو ثلاثة ، ثم أنه لم يكن لبجيلة ، وهم من الأوائل المقيمين ، جبّانة على ملكهم فكانوا ينزعون إلى الانضمام لخثعم عندما تفرض الظروف ذلك عليهم. ولنمعن النظر في المصدر الموجود بين أيدينا (٤). لقد أقام عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني بجبّانة السبيع ، وأقام زحر بن قيس الجعفي (عشيرة من مذحج) وإسحاق بن محمد بن الأشعث في جبانة كندة ، وكعب بن أبي الخثعمي في جبانة بشر حيث لحقت به بجيلة ، وأقام عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف «عن الأزد». ثم تجمع كل اليمنية ، ما عدا أغلب مذحج المقيمين في جبانة مراد ، في جبانة السبيع ـ جبانة همدان ـ حيث تقرر مصير الصراع الذي تواجه فيه الاشراف والمختار. فكان هذا التجمع مكتسبا صبغة استراتيجية واسعة جدا أبرزت أهمية هذه الجبانة ، وقد تفوقت فيها همدان ضمن المجموعة اليمنية.
وكانت قيس تمثل القوة الثالثة ، ولها أهمية ثانوية ، وكانت برئاسة شمر بن ذي الجوشن المعروف في تاريخ الكوفة. وفي تلك الحقبة من تاريخ العرب الأولى كانوا متميزين عن مضر حيث أن المفهومين اكتسبا دلالة محدودة آنذاك ولم يتطابقا. تجمع قيس فروع
__________________
(١) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥ : همدان في جبّانة السبيع ، مذحج وكندة في جبانة كندة ، خثعم في جبانة بشر ، الأزد في جبانة مخنف ، قيس في جبانة السلول ، مضر في الكناسة ، ربيعة بين المركز والسبخة.
(٢) الطبري ، ج ٦ ، ص ٢٥.
(٣) الطبري ، ج ٥ ، ص ٢٦٢ : بنو حرب وبنو العنبر.
(٤) الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٥.