فيروى أنه بينا سعد والمسلمون كذلك إذ سمعوا ليلا قائلا يقول : يا معشر المسلمين ، هذه المدائن قد غلقت أبوابها وغيبت السفن وقطعت الجسور فما تنتظرون ، فربكم الذي يحملكم فى البر هو الذي يحملكم فى البحر ، فندب سعد الناس إلى العبور ، فأتاه قوم من العجم ممن قد اعتقد منه ذمة فقالوا : ندلك على موضع أقل غمرا من هذا ، فدلوه على ديلمايا (١).
وقيل (٢) : إن سعدا رأى رؤيا كأن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرتها ، وقد أقبلت من المد بأمر عظيم ، فعزم على تأويل رؤياه على العبور ، وفى سنة جود صيبها متتابع ، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه ، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا ، فيناوشونكم فى سفنهم ، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه ، فقد كفاكموهم أهل الأيام ، وأعطوا ثغورهم ، وأفنوا ذادتهم ، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا : ألا إنى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ، فقالوا جميعا : عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل ، فقال : من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى يتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس ، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات ، واستعمل عليهم عاصما ، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة فقال : من ينتدب معى لنمنع الفراض من عدوكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور ، ليكون أسلس لعوم الخيل ، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمائة على أثرهم وقد شدوا على خيولهم حزمها وألبابها وقرطوها أعنتها وشدوا عليهم أسلحتهم ، فلما رأتهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التي تقدمت خيلا مثلها ، فاقتحموا إليهم دجلة ، فلقوا عاصما فى السرعان ، وقد دنا من الفراض ، فقال : الرماح الرماح أشرعوها وتوخوا العيون ، فالتقوا ، فاطعنوا فى الماء ، وتوخى المسلمون عيونهم ، فتولوا نحو البر والمسلمون يشمسون بهم خيلهم حتى ما يملكون منها شيئا ، فلحقوا بهم فى البر فقتلوا عامتهم ، ونجا باقيهم عورانا. ونزلت بالمسلمين خيولهم حتى انتقضت على الفراض ، وتلاحق باقى الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين.
ويروى أن أولئك الستين خرجوا يومئذ من دجلة منقطعين زمرا ، الزمرة الأولى تسعة فيهم عاصم ، والثانية ثمانية عشر ، والثالثة ثلاثة وثلاثون ، ويومئذ سميت كتيبة عاصم هذه كتيبة الأهوال ، لما رأى منهم فى الماء والفراض.
__________________
(١) ديلمايا : موضع بالعراق على دجلة. انظر الخبر والتعريف فى : الروض المعطار (ص ٢٤٩).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٩ ، ١٠).