[الكهف : ٨٤ ، ٨٥] ، حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وله فى كل إقليم أثر ، فبنى بالمغرب الإسكندرية ، وبخراسان العليا على ما يقال سمرقند ، ومدينة الصغد ، وبخراسان السفلى مرو وهراة ، وبناحية الجبل جيّ ومدينة أصبهان ، وبنى مدنا أخرى كثيرة فى نواحى الأرض وأطرافها ، وجال الدنيا كلها ووطئها ، فلم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها ، وبنى بها مدينة عظيمة ، وجعل عليها سورا أثره باق ، وهى المدينة التي تسمى الرومية فى جانب دجلة الشرقى ، وأقام بالإسكندرية راغبا عن بقاع الأرض كلها وعن بلاده ووطنه.
وذكر بعض أهل العلم أنها لم تزل مستقرة منذ نزلها حتى مات بها ، وحمل منها فدفن بالإسكندرية لمكان والدته ، فإنها كانت إذ ذاك باقية هناك.
وقد كان ملوك الفرس لهم حسن التدبير والسياسة والنظر فى الممالك واختيار المنازل ، فكلهم اختار المدائن وما جاورها لصحة تربتها وطيب هوائها واجتماع مصب دجلة والفرات بها.
ويذكر عن الحكماء أنهم كانوا يقولون : إذا أقام الغريب على دجلة من بلاد الموصل تبين فى بدنه قوة ، وإذا أقام بين دجلة والفرات بأرض بابل تبين فى عقله زيادة وفى فطنته ذكاء وحدة ، وذلك الذي أورث أهل بغداد الاختصاص بحسن الأخلاق والتفرد بجميل الأوصاف ، وقل ما اجتمع اثنان متشاكلان ، وكان أحدهما بغداديا إلا كان هو المقدم فى لطف الفطنة ، وحسن الحيلة ، وحلاوة القول ، وسهولة البذل ، ووجد ألينهما جانبا ، وأجملهما معاشرة.
وكان حكم المدائن إذ كانت عامرة آهلة هذا الحكم ، ولم تزل دار مملكة الأكاسرة ، ومحل كبار الأساورة ، ولهم بها آثار عظيمة ، وأبنية قديمة ، منها الإيوان الذي لم ير فى معناه أحسن منه صنعة ، ولا أعجب عملا ، وقد أحسن فى وصفه أبو عبادة الوليد بن عبيد البحترى فى قصيدة له على روى السين يقال إنه ليس للعرب سينية مثلها ، ووصف أيضا معه القصر الأبيض ، وما كان مصورا فيه من الصور العجيبة والتماثيل البديعة والصنائع الغريبة فأبدع فى وصف ذلك وأحسن ما شاء ، فقال :
حضرت رحلى الهموم فوجه |
|
ت إلى أبيض المدائن عنس |
أتسلى عن الحظوظ وآسى |
|
لمحل من آل ساسان درس |
أذكرتنيهم الخطوب التوالى |
|
ولقد تذكر الخطوب وتنس |