وضرب عسكره على الصراة ، وتدبر موقعها فاعجبه وقال : هذه دجله ليس بيننا وبين الصين شئ يأتينا فيها كل ما فى البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية (١) وما حول ذلك ، وهذه الفرات يجئ فيها كل شئ من الشام والرقة وما حول ذلك ، كما أنه لا حظ خصب البقعة التى تقع فيها بغداد ، الأمر الذى ييسر لسكانها رغد العيش ، يضاف إلى ذلك سهولة الدفاع عن موضوع بغداد ، فإن هاجمها أحد كانت دجلة والفرات وروافدهما خنادق لها ، فإذا خربت القناطر احتاج العدو إلى العبور ، لذلك فإن الهجوم عليها أمر صعب (٢).
أصاب المنصور فى اختياره لبغداد حاضرة لدولته ، وقد ذكر ابن خلدون فى مقدمته عن الشروط الواجب توافرها فى الحاضرة فقال : أما أن تقع على هضبة متوعرة من الجبل ، وأما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها بعد العبور ، وطيب الهواء للسلامة من الأمراض ، وقرب الزرع منها ليحصل الناس على الأقوات.
وكانت الأرض التى تقع فيها بغداد منذ القدم من أهم مراكز الحضارة ، وازدهرت فيها بصفة خاصة الثقافة الشرقية القديمة ، وكانت من أهم المراكز التجارية حيث تلتقى فيها عدة طرق تصلها بمختلف البلاد ، وشهدت هذه الأرض الحواضر (٣) عظيمة مثل بابل وسلوقية والمدائن وورثت بغداد هذه بل واستخدم فى بنائها انقاض مدينة المدائن التى تبعد عنها بضعة كيلو مترات (٤).
أحاط بتأسيس مدينة بغداد روايات من نسج الخيال رواها الكتاب العرب ، فذكروا أن رهبان الدير القريب من مدينة بغداد سأل المنصور عن الرجل الذى يريد بناء المدينة ، فقيل له المنصور ، فقال الراهب للرجل : اذهب إلى صاحبك وقل له لا يتعب نفسه فى بناء هذه المدينة ، فأنا نجد فى كتبنا أن رجلا اسمه
__________________
(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك ـ حوادث سنة ١٤٥ ه.
(٢) مقدمة : ابن خدون ص ٣٤٣.
(٣) Ency.of Islam.Art Baghdad
(٤) Hitti : Hist ,of the Arabs P.٢٤٢.